- محمد مسعود / سبها
صعد على مهل درجات خمس ، قبل أن يجد نفسه على ركح المسرح الفسيح ، المحاط بجمهور شديد الاكتظاظ ، هائمون ، تتمايل أيديهم ذات اليمين وذات الشمال تناغماً مع معزوفة حزينة تصدح بالشجن وهم يرددون ذات القطعة التي صار يُعرف بها . ستون ونيف من المقاطع الموسيقية كانت جل حصاده ، وكان يتغنى بها على الركح بذلك المسرح الفسيح ، وما أفلحت لتقله لمصاف المغنين ولا العازفين البارعين ، وحدها تلك التي كان أسماها (مقطوعة أحبك) يحفظها الجمهور عن ظهر غيب ، حتى إنهم بكثير من الفواصل كانوا بارعين أكثر منه وهم يهيمون بتكرارها ، سيما حينما تخرس الآلات الموسيقية من شدة الصخب والهيام ، فقط كان عازف الناي يسافر بعيداً مع ذلك التناغم الرهيب فيجد من حيث لا يدري يداه وقد سبقته لتلك الثقوب لتنفث أبدع انسجام مرهف ، دونما الاعتداد بإيماءات قائد الفرقة مطلقاً. بين الوصلات كانت أنْات الناي تُسمع بوضوح ، فما إن أقام واقفاً فاتحاً يديه ، كالذي يستعد لاحتضان آتٍ من بعيد عبر الأفق ، نكس رأسه ، ثم مسح ببطن كفه اليسرى محياه الشاحب وهَمْهَم همساً مع جمهور الهائجين بالمسرح الجليل الفسيح ، بلباسهم الأبيض الفضفاض الناصع ، والذي يعمل وهجاً مهيباً بالأرجاء ، تماسك أكثر وصار يحفز بعض بوحٍ سرعان ما تدحرج من على شفتيه ، وتبعثر مسفوحاً بلغة باكية وهو يجاري ذلك الصخب ، فيمتشق الألق ، ويصير يتغنى قائلاً :
نعم كثيراً أحبك رغم الوجع ،
ورغم الخيبات سأبقى أحبك.
يا أمنا من على سفح الأمنيات نغادرك
الآن ولمّا يكتمل البدر ذلك أن الرحيل بعض من دين .
سأمضي ،وأنا أحملك حباً بين حناياي .
حيث لا رجوع .
قال كل ذلك دون أن يسمعه جمهوره حتى !،
ثم جثى على ركبتيه وبكى كثيراً، حينها توقف الناي عن نغماته الجنائزية ، وحُشر بجراب العازف يميناً ، ضل شاخصا بالأفق كثيراً ، كمن يلحق بركب محبيه ، ثم صمت صخب الجمهور فجأة ، فيما كان الركح يشهد فجيعة انسلاخ مغنيه عنه ،وترجله ليشارك الجمهور ترقبهم لقادم آخر يصعد الركح قبل أن ينضم إليهم كسابقه ، ذلك الذي قال أحبكِ ومضى .