قِرَاءَةٌ فِي كِتَابِ (عُمَرُ المُخْتَارِ الْحَقِيقَةُ المُغَيّبَةُ) لِلْبَاحِثِ يُوسُف عَبْدُالْهَادِي الْحَبّوش

قِرَاءَةٌ فِي كِتَابِ (عُمَرُ المُخْتَارِ الْحَقِيقَةُ المُغَيّبَةُ) لِلْبَاحِثِ يُوسُف عَبْدُالْهَادِي الْحَبّوش

عَن الكِتَابة التّارِيخِيّة

حسن المغربي مدير تحرير مجلة رؤى الثقافية

 تلويحة البدء

لا جَرَمَ أن الكتابة التاريخية تتطلب ذخيرة معرفية وسعة اطلاع على جميع المعارف والعلوم الإنسانية، فضلا عن التمكن من أولويات الكتابة والتدرب على أساسيات المنهج العلمي، فهي تحتاج كما يقول ابن خلدون “إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة وحُسن نظرٍ وتثبّتٍ يُفضيان بصاحبهما إلى الحق ويُنكّبان به عن المزلات والمغالط”1، ومن المؤسف، يلاحظ (خاصة بعد انتفاضة فبراير)كثير من البحاث الليبيين يُهرعون إلى اقتحام مجال التأليف في كتابة التاريخ ولمّا تتحقق فيهم مؤهلات ومقومات الكتابة التاريخية، فيأتي ما يكتبون باديا عوارُه على كافة الصعد المعرفية والموضوعية والمنهجية،ولنا في كتاب (عمر المختار) الذي صدر بالقاهرة خير مثال على ذلك الصنيع. كتاب (عمر المختار الحقيقة المغيبة) لصاحبه يوسف عبدالهادي الحبوش، من منشورات مكتبة وهبة القاهرة، الطبعة الأولى عام 2017م يتألف هذا المؤلف من 560 صفحة من القِطع المتوسط، وهو يشتمل على ستة فصول بالإضافة إلى المقدمة والملاحق وقائمة المراجع. وقد جاءت على غلاف الكتاب صورة بالأبيض والأسود جمعت بواسطة تقنية الفوتشوببين عمر المختار وإدريس السنوسي. يروي هذا البحث التعريف بهذا الكتاب، وتسجيل بعض الملاحظات المتحصلة من بعد قراءته المتأنية، وسيكون التركيز بالدرجة الأولى على المنهجية العلمية المتمثلة في طرق التوثيق والأمانة العلمية، فالتاريخ وإن ” تتساوى في فهمه العلماءُ والجهالُ”2 إلا أنه مثل أي فرع من فروع المعرفة يتطلب جملة من المواصفات في المُقدِم عليه، أهمها الموضوعية العلمية التي تُعد من أخطر ما يعوق الكتابة التاريخية.

فُصوُل الكِتَاب تناول الباحث في الفصل الأول الموسوم ب (عمر المختار والسنوسية) ولادة عمر المختار ونشأته بإيجاز وعجالة لا تضيف شيئا لسيرة شيخ الشهداء في صباه، حيث أفرد له صفحة واحدة! وكان من المنتظر(من خلال عنوان الكتاب على الأقل) التركيزعلى حياة المختار والبيئة التي نشأ فيها وأثرها في تكوين شخصيته البطولية، لكن الباحث لم يفعل، وإنما انتقل مباشرة إلى تاريخ الدعوة السنوسية، وتكلم عن مؤسسها الكبير، ودوره في تأسيس ما يعرف بالزوايا، وفي معرض حديثه عن مسيرة (ابن السنوسي) الدعوية، أكد الباحث أن من أهم الأسباب التي دفعت ابن السنوسي لمغادرة مكة هو انزعاجه منه الاحتلال الفرنسي لبلاده الجزائر، وفي الواقع، هناك عدة أسباب لم يذكرها الباحث، منها ما أشار إليه أحمد صدقي الدجاني بقوله:” نجد أكثر من واحد من مؤرخي السنوسية يذكرون أن نجاحه في دعوته حرك ضده عداوة شيوخ مكة وعلمائها الذين كانوا متضايقين لمخالفته إياهم، وقوله بالاقتصار على اتباع الكتاب والسنة”4 وهذا سبب وجيه، فكيف يُرحب بشيخ يدعو إلى فتح باب الاجتهاد ومخالفة آراء الفقهاء بأرض الحجاز! وبالتالي، فمن الطبيعي أن يُهاجم ويرمى بالضلال،ومن جراء مخالفتهتلك، لقد هوجم (الشيخ السنوسي)في مصر، فحينما وصل إلى القاهرة رأى بعض علماء الأزهر في دعوته (وكان بينهم الشيخ حسن العطار) “خروجا عن المألوف وجرأة لم يعهدوها، فانتهزوا فرصة (…) انتقاده لحكومة الباشا في القاهرة محمد علي وللحكومة العثمانية، وطلبوا من طلاب العلم والمستمعين لآرائه الابتعاد عن حلقاته لأنه يبتدع في الدين، ويتطرف في آرائه”5، وقد سجل لنا الإمام محمد عبده محاولة قتله على يد الشيخ محمد عليش”ألم يسمع السامعون أن الشيخ السنوسي (والد السنوسي صاحب الجغبوب) كتب كتابا في أصول الفقه زاد فيه بعض مسائل على أصول المالكية، وجاء في كتاب له ما يدل على دعواه أنه ممن يفهم الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة، وقد يرى ما يخالف رأي مجتهد أو مجتهدين، فعلم بذلك أحد المشائخ المالكية وكان المقدم في علماء الجامع الأزهر الشريف، فحمل حربة وطلب الشيخ السنوسي ليطعنه، (…) وإنما الذي خلص السنوسي من الطعنة، ونجي الشيخ المرحوم من سوء المغبة، وارتكاب جريمة باسم الشريعة، هو مفارقة السنوسي للقاهرة”6، وهناك أسباب أخرى (أغفلها الباحث) ذكرها المؤرخون، تتطلب الموضوعية العلمية الإشارة إليها ولو خطفا، وما هو جدير بالذكر أن معظم المراجع المتاحة الآن تتفق على أن (ابن السنوسي) لم يكن مرحبا به في معظم الأقطار العربية مثل الحجاز ومصر والمغرب والجزائر، فاضطر للّجوء إلى برقة من أجل نشر دعوته، وفي هذا السياق يقول الدكتور رأفت الشيخ “فترك الحجاز (يقصد ابن السنوسي) عام 1840م عائدا إلى الجزائر عن طريق مصر (واحة سيوة) فبرقة وطرابلس، ولكنه خشي الفرنسيين الذين احتلوا الجزائر عام 1840م، فعاد إلى برقة حيث نزل بالجبل الأخضر ليتخذ منه مقرا لدعوته”7، أماالدافع الرئيس الذي جعل السنوسي الكبير يفكر في الذهاب إلى الجزائر بعد مغادرة الحجاز، ليس بسبب انزعاجه من الاحتلال الفرنسي كما لوّح إلى ذلك الباحث، وإنما من أجل الاجتماع بأحد أولاده، وهذا ما صرّح به السنوسي الكبير نفسه في إحدى مراسلاته قائلا: “نحن متوجهون إلى جهة المغرب، عندنا ولد هناك مرادنا نجتمع به”8. ومن ثم ينطلق الباحث في الحديث عن صوفية (ابن السنوسي)وعلاقة سكان برقة بالدعوة السنوسية، يظهر في كلامه اقتباس من كتاب الرحالة الفرنسي جورج ريمون المسمى “من داخل المعسكرات التركية العربية”مشيراإليه في الهامش على أنه نُقل من النسخة الفرنسية مباشرة، وكان من الواجب أن يذكر بيانات الكتاب باللغة الفرنسية أو يذكر اسم المترجم الذي اعتمد عليه، خاصة أنه سجل ملاحظات سلبية على ترجمة محمد عبدالكريم الوافي الموسومة (من داخل معسكرات الجهاد في ليبيا) واتهم صاحبها بالتحريف والإضافة والحذف والعبثية دون التدليل على ما يقوله، وفي هذا المقام سنقوم بتفنيد دعوته من أجل التاريخ أولا، ومن أجل أستاذنا الجليل الذي تعلمنا على يديه الأمانة العلمية أثناء تدريسه لمناهج البحث التاريخي بالجامعة.أما بالنسبة لتغيير عنوان الكتاب، لقد درج كثير من المترجمين على هذه العادة، أشهرهم الأستاذ منير البعلبكي صاحب قاموس المورد، فقد ترجم كتاب برتراند راسل (انتصار السعادة) إلى (كيف تكسب السعادة)، وكتاب لورافاغليري(تفسير الإسلام) إلى (دفاع عن الإسلام) وغيره من المترجمين فعلوا ذلك، عربا وأجانب، وبالمثل، فإن الدكتور الوافي طالما اعتاد قرّاؤه في جميع ترجماته تقريبا بتغيير العناوين بحسب طبيعة الموضوع، فعلى سبيل المثال: قام بتغيير عنوان كتاب شارل فيرو من (الحوليات الطرابلسية) إلى (الحوليات الليبية) وذكر في المقدمة أن الذي حمله على ذلك: “هو أن الغربيين، بل وحتى الأتراك أنفسهم، كانوا حتى مطلع هذا القرن، يجعلون تسمية (طرابلس الغرب) مرادفة وبديلة لتسمية (ليبيا)

بمفهومها الحديث”9، وفعل الشيء نفسه مع كتاب (قورينى خلال العهد الملكي الباطي)لفرانسوا شامو، ترجمه تحت عنوان (الإغريق في برقة الأسطورة والتأريخ)، وكتاب البارون الفونص روسو (الحوليات التونسية لمحة تاريخية حول إيالة تونس) ترجمه إلى (الحوليات التونسية منذ الفتح العربي حتى احتلال فرنسا للجزائر)، ومن هنا تنتفي فرضية تواطؤ الدكتور محمد الوافي و نظام القذافي كما أشار إلى ذلك الباحث، فالذي يعرف المؤرخ الليبي الكبير محمد عبدالكريم الوافي، وقرأ إنتاجه الغزير قراءة جيدة، لا يمكن أن يطعن في أمانته العلمية بأي حال10. أما فيما يتعلق بتغيير كلمة السنوسية ووضع بدلا عنها أعيان أو قبائل، فإن السياق التاريخي يفرض على المترجم في كثير من الأحيان ترجمة روح النص، وليس الترجمة الحرفية، والوافي يعلم من خلال الترجمة أن الرحالة الفرنسي لا يفرق بين ألفاظ (المجاهدين والأعيان والقبائل) وبين لفظ (السنوسية)، وإليكم إحدى المآخذ التي ذكرها الباحث وطعن من خلالها في أمانة المترجم: صورةوضعها الرحالة جورج ريمون يظهر فيها بعض المشايخ: كَتَب في أسفلها باللغة الفرنسية: (عزيز بي قائد القوات العثمانية عند بنغازي يحيط به شيوخ السنوسية)، ترجمها الوافي (عزيز بي قائد القوات العثمانية عند بنغازي يحيط به أعيان المدينة)، وواضح عبر سياق النص أن ريمون يريد (بشيوخ السنوسية) أعيان وشيوخ مدينة بنغازي أولئك الذين يقاتلون تحت راية السنوسية،وكذلك الصورة الأخرى التي أشار إليها الباحث، فهي أيضا يظهر فيها بعض مشايخ السنوسية وأعيان بنغازي (باعتراف جورج ريمون نفسه) مجتمعي نفى خيمة عمر منصور الكيخيا11، يجوز أن تترجم:( أعيان أو شيوخ السنوسية أو كلاهما معا)، لا يوجد هنالك إشكال، لكن يبدو الباحث يرى بأن كل المجاهدين في برقة إما أن يكونوا سنوسيين أو يقاتلون من أجل السنوسية، يُلاحظ ذلك في معرض حديثه عن المجاهدين الليبيين في برقةأمثال: بورحيل، والفضيل بوعمر، والعبار، وعمر المختار، وصالح الإطيوش وهذا ليس صحيحا، فهؤلاء لم يقاتلوا من أجل السنوسية وإنما من أجل الدين والوطن، والدليل على ذلك أنهم رفضوا حل المعسكرات حينما وقعت السنوسية اتفاقيات الصلح مع الإيطاليين،وبسبب قناعة الباحث في أن كل قادة المجاهدين وأعيان المدن في برقة ينتمون للحركة السنوسية عسكريا، وقع دونما يعلم في مغالط كثيرة، من بينها جعل دور المغاربة الذي يقوده صالح الإطيوش ضمن الأدوار التابعة للحركة السنوسية، مع أن المجاهد صالح الإطيوش لم يكن معينا في قيادة الجهاد من قبل السنوسية، ولم يكن نائبا لهم كما زعم الباحث في أكثر من مقام12، وإنما قبيلته هي التي أولته الثقة في قيادة الدور، فمن المعروف أن دور المغاربة الذي يمتد على طول (برقة البيضاء) جميع أفراده من قبيلة المغاربة، ولم يكن خاضعا في أي وقت لعمر المختار، وإن كان قد تلقى الدعم والمساعدة من شيخ المجاهدين13 .

للقراءة بقية تابعونا

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :