كذبة فبراير

كذبة فبراير

بقلم :: ليلى المغربي 

سرحت بتفكيري ونظري ممتد لما وراء النافذة العريضة التي تحتل مساحة كبيرة للجدار المقابل لباب الصالون المفتوح وللكنبة التي اعتدت الجلوس عليها كلما زرت أمينة ، تخيلت لو أن هذه النافذة تطل على حديقة خضراء تمتلئ بالزهور باتساعها المغري للنظر بدل إطلالتها على منور البناية الذي يجمع النوافذ للتهوية بجدران تقشر طلائها وظهرت الشقوق في الاسمنت الرمادي الكئيب ليلقي بظلال كآبته على المكان رغم محاولات أمينة تزيينه ببعض أصص الزرع التي تهوى الإعتناء بها ، ارتاح لهذا الركن وأجلس فيه كلما زرتها، الكنبة العريضة بلونها الأرجواني الزاهي تطفو الأزهارالصفراء الصغيرة نافرة على سطحه تدغدغ بشرتي وذائقتي التي ترتاح لهذه الألوان الدافئة ، أيقظني من تأملي للمكان تسلل رائحة القهوة المعطرة بالهال المغلية جيداً والتي تعدها أمينة بإحترافية وتتعمد أن تدلق القليل من القهوة على الموقد لتزيد من انتشار وعبق القهوة المنعشة

ارتشفت قهوتي اللذيذة وأنا أداعب القطة السيامية الرمادية المسترخية بجانب قدميّ والتي لا تملّ من الاسترخاءوالنوم، وحين أردت سكب فنجان أخر أخذت أمينة فنجاني وحركت بقايا القهوة في قعره بحرص شديد كي لا ينسكب السائل منه ثم قلبته وتركته فوق طبق الفنجان ، وباغتتني بسؤالها ما الذي يدعونا للكذب؟ ــ أجبتها على حسب هدفنا، نكذب أحياناً لنجمل الأشياء وفي أحيان أخرى لنشوهها .. إنها يا عزيزتي خديعة أو حلم أو وهم حتى ..

ــ نعم أفهم هذا يا سامية لكن لماذا لا نواجه الواقع وأنفسنا بما يحمله من قسوة ومرارة وفرح ؟ ـــ لنفس السبب يا أمينة ، نحن البشر لا يمكننا أن نعيش دون أن نكذب ، طبيعة البشر التي تجعلنا نستعمل مواد التجميل أو ارتداء ثياب أنيقة لنبدو في مظهر يرضينا ويرضي الأخرين ، هي نفس الطبيعة التي تشوه الأشياء لنزعة ما بداخلها ، نحن نتقن التجميل كما نتقن التشويه بنفس البراعة وكلها أشكال وصور للكذب ، لماذا برأيك تتفكك العلاقات بين البشر ، كالزواج ، الحب ، الصداقة وغيره.. ؟

سكبت لي أمينة القهوة في فنجان نظيف ، تاركة فنجاني الأول مقلوب كي يجف كما قالت ثم أجابتني ــ عدم توافق أو تفاهم ، الإختلاف الكبير بينهما ، قد يكون الغش والخداع والأنانية والخيانة وغيره الكثير ..

ـــ نعم ما ذكرته صحيح لكن كل هذا يا صديقتي سببه الكذب ، ليس بالضرورة أن من يكذب خطط له .. هي مسألة اعتياد نتجمل ونظهر أحلى ما فينا ومع الوقت تسقط الأقنعة ويتبدى الوجه الأخر الحقيقي الذي أخفيناه عمداً أو دون قصد .. ما أبغضه حقاً هو الكذب على النفس ، في كثير من الأحيان نكذب على أنفسنا بوعي أو بدونه ..

رفعت أمينة فنجان القهوة المقلوب بعد أن جفّ قائلة: دعيني أقرأ لك المستقبل .

سحبت من يدها الفنجان وقلت لها: دعينا نقرأ الواقع وانظري إلى هذه الخطوط البنية المتشابكة والمساحات البيضاء التي تتخللها ، كيف ترينها ؟ ـــ أراها كوضع بلادنا اليوم ، فوضى تشبهنا تماماً ، لا يمكن شرحها أو تفسيرها ، ها نحن نقترب من الذكرى السادسة للثورة ، أو ما سمي بثورة لنكتشف أنها خديعة ، سمعت أحدهم يقول: ألقوا بالثورة في الشارع ، وسيحتضنها الشعب من جديد ، ضحكت وكدت أسأله أي ثورة تلك التي تتحدث عنها ، ؟ أي ثورة هذه التي جاءت ضد الظلم لتغرقنا في الظلام والظلمات ، أدرك حجم خيبتك يا صديقتي لكنني حين أقارنها بما كنا فيه ، أخجل من تأييدي لها، أشعر وكأنني ساهمت في هذا الخراب .

ـــ ـــ بل كانت ثورة يا صديقتي ، ثورة انتظرناها وحلمنا بها ، لكن ما حصل بعدها من خيبات وصفعات ، نحن من نتحمل وزره ، لقد تماهينا مع الفوضى وتركنا لشرذمة أن تعبث بحياتنا وتقطع عنا سبل الحياة، كانت ثورة بحجم أحلامنا نحن البسطاء، لطالما سألت نفسي ومن حولي لماذا نعيش في بلد يمتلك ثروات هائلة وبنية تحتية منهارة ، التعليم ومناهجه البائسة ومبانيه المتهالكة، الصحة المسروقة التي نسافر لدول الجوار للحصول على عناية طبية تليق بالبشر، الشوارع المحفرة التي تأكل من أعمارنا وأعمار سياراتنا.

ـــ والآن يا سامية كل هذا دمروه والذي لم يكن يرضينا ويعجبنا ، بل فقدنا معه الكهرباء والماء والأمن ومعهم كرامتنا كبشر، عليكِ أن تعترفي أنها لم تكن ثورة تلك التي قالوا “دعوها فإنها مأمورة”، لولا أنني لست من هواة نظرية المؤامرة لصدقت أنها مأمورة من أطراف أخرى، تخلي عن كبريائك قليلاً واعترفي أنها لم تكن سوى “خطأ مطبعي/ فورة .. ثورة” .

ـــ أنا يا صديقتي أراها ثورة، حتى في تعريف المفكرين للثورات تعتبر ثورة .. أما نحن فقد كنا ضحية أنفسنا ، ضحية حلم رسمنا فيه نتائج الثورة على مقاسنا .. كذبنا على أنفسنا .. وها نحن اليوم نعاني تبعات كذبتنا.. نحن من شوهنا الحلم الجميل كما أخبرتك في بداية حديثنا، في الواقع هذا يذكرني بحادثة حصلت معي قبل سنوات مضت كنت وقتها عائدة من زيارة صديقة لا يبعد بيتها عنا كثيراً، كنت أسير على قدمي فوق الرصيف المحاذي لطريق السور برشاقة وأنا أرتدي فستاناً أصفر اللون وحذاء أبيض ذو كعب عال وشعري الطويل والمصفف بعناية ينسدل إلى أسفل ظهري بتموجاته الرقيقة، أتابع واجهات المحال وأنا أعبرها دون أن أتوقف، في لحظة وقبل استيعاب الأمر غمرتني موجة مياه باردة أغرقتني من رأسي حتى أسفل قدمي، كنا في عز الصيف ولم تكن أمطاراً بل صهريج ماء لا أعرف لم فعل صاحبه هذا بي، كان منظري يشبه فرخ البط الأصفر حين يخرج من البحيرة، عدت إلى البيت غاضبة وحزينة ومن يومها كرهت إرتداء اللون الأصفر، لا أدري ما الذنب الذي ارتكبه هذا اللون لكنني منذ سنوات لا أرتديه وحملته ذنب ما فعله بي سائق الصهريج الذي حقق ما أراد وغادر منتصراً بعد أن شوه شيئاً جميلاً، وهذا ما نفعله اليوم دون وعي منا نحن من افترضنا نتائج الثورة، ومن جاءت النتائج على مقاس أحلامه سيتمسك بها، لأن هناك من يراها اليوم حققت أحلامه، وكل فبراير يعدد الرابح مكاسبه منها والخاسر خسائره، وتطرح الأسئلة هل كانت ثورة أم انتفاضة ، نكبة، مؤامرة، فورة، نعمة أم نقمة، سرقت أو تسلقها البعض، كل هذا كلام لا يقدم للجائع خبزاً ولا للمقهور عدلاً ولا للمهجرين بيوتاً،أما الخطأ المطبعي فقد كان أكبر من حرف تم استبداله .. لقد كان حلماً تحول إلى كابوس، وكي نصحو من هذا الكابوس علينا أن نوقف كذبة فبراير التي توهمنا أنها ستأتي كما نريدها، خذي الفنجان واقرأي لنا المستقبل لعلك تجدين فسحة بيضاء كبيرة بين تلك الخطوط نعبر منها، أما قلوبنا ستبقى على أهبة الوجع .

 

 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :