قصة صحفية : عبدالمنعم الجهيمي
في ركن منزوٍ خارج المدينة وتحديدا في حي عبدالكافي يأتي الشاب علي عمر بن عروس كل يوم إلى ورشته أو مركزه كما يحب أن يسميه، وهو ورشة لصيانة السيارات، الذي يعتبره بطلنا مشروعه ومصدر رزقه منذ سنوات، علي شاب في منتصف الثلاثينات تتقد عيناه حماسا ونشاطا ولاتفارق الابتسامة وجهه رغم تعقيدات عمله وضرورة التركيز في كل تفاصيله.
في داخل الورشة ستجد كل شيء مرتب ومنتظم بشكل لا يشعرك أنك في ورشة، فعلي حريص على كل التفاصيل، وأشد حرصا على ترتيب المكان وتنظيم معداته، وبذات القدر يحافظ على علاقة مميزة ومثيرة مع الموظفين لديه، وهم من العمالة المحلية والمهاجرين، يقول إنه تعلم منهم الكثير ولا يستطيع أن يتخيل يوميات المركز وعمله من غيرهم.
يجلس علي بجانب الباب الكبير صامتا لعله يفكر كيف يبدأ لنا حكايته مع هذا العمل وفي هذا المركز، فبادرته بالسؤال عن تعليمه ليخبرنا أنه درس القانون ولم يوفق في إكمال دراسته، تظهر سعادته حين يخبرنا عن فترة دراسته في القانون وكيف أن تلك الفترة تركت آثارها في شخصه إلى اليوم، فقد تعلقت في فكره نظريات مادة علم الإجرام وخاصة نظرية لامبروزو، ويسهب في حديثه عن لامبروزو ونظرياته في ذلك العلم، وعن ربطه لشكل المجرم بأوصاف جسمانية معينة.
يقول علي إن لامبروزو ونظرياته جعلتني أتمعن دائما في الكثير من الوجوه التي ترتاد المكان وخاصة ممن لا أعرفهم، حين أشاهد إحدى الصفات التي ذكرها لامبروزو في إحدى الوجوه، ولطالما أسرح أثناء حديث بعضهم معي وأنا أتأمل قسمات الوجه وشكل الرأس وأقارن بينها وبين مواصفات لامبروزو، ولكنني أستدرك نفسي وأعود لطبيعتي، مادة القانون وتخصصاته لا يستطيع أحد أن يتخلص منها بسهولة، فهي تكون رفيقة الفكر لسنوات حتى تصبح من تكوين الشخصية.
يعمل علي في هذا المركز منذ أكثر من ثلاثة أعوام، قبل ذلك كان يعمل في ورش مختلفة تعلم خلالها الكثير عن مهنة صيانة السيارات وفك وتركيب المحركات، مع الوقت توسع عمله وكسب ثقة العديد من سكان المدينة، وصار قادرا على أن يكوّن مشروعه الخاص، فبدأ في مركز متوسط افتتحه في وادي الشاطئ، قبل أن ينتقل هنا في حي عبدالكافي ليفتتح مركزا أكبر وأكثر نشاطا.
لم يكتفِ بعمله في المركز وحسب بل بدأ في تنسيق مشاركات باسم المركز في العديد من المحافل والسباقات المحلية والوطنية، كان آخرها في رالي فزان، إذ يخرج للرالي ويخيم في الصحراء مع عماله ومعداته مجانا للمشاركين في الرالي وغيرهم، وهو ما زاد من اهتمام الناس بمشروع علي ولفت انتباههم له، فعاد أكثر عملا وقوة بعده.
الملفت في حكاية علي علاقته مع العمال في المركز، يقول تعلمت منهم اللغة أو الكثير من مصطلحات اللغة، وتعلموا مني الكثير من العربية أو اللهجة المحلية الدارجة، ونعمل كفريق واحد لا رئيس فيه ولا موظف، نقضي هنا في المركز ساعات أكثر من تلك التي نقضيها في منازلنا مع عائلاتنا، حتى إننا نعد المكرونة في المطبخ الموجود هنا، ونصلي جميعا ونشرب القهوة والشاي معا، مع الوقت لم نعد نشعر بعلاقة الرئيس والعاملين، وصرنا بالفعل فريقا من الإخوة يعملون في ذات المكان.
يضع علي في منتصف المركز سبورة متوسطة الحجم، يرتب عليها أسماء زبائنه وأنواع سياراتهم وعطل كل واحدة منها، يقول إنه لم يعد يستطيع تذكر جميع المرتادين وأعطال سياراتهم ومواعيد تسليمها، وهو ما دفعه لاتباع هذه الطريقة التي أراحته ومكنته من تنظيم العمل بالشكل المناسب.
لا يخلو الأمر من المنغصات، يقول علي إنه ظل لفترات يواجه صعوبة في التعامل مع بعض الزبائن، فبعضهم لا يهون عليه دفع الأجرة لقاء الخدمة التي يريدها، فيفاصل فيها وأحيانا يتهرب من الدفع، ويحدث أكثر من مرة أن أشتري قطع غيار وأتحملها ثم يتهرب الزبون ولا أتمكن من إرجاع القطع التي اشتريتها، ولكن مع الوقت وتراكم الخبرة ووضع نظام محدد للعمل تمكنت من معالجة كل هذه التحديات أو التخفيف من آثارها السلبية على العمل.
تمضي الأمور هنا في ورشة أو مركز علي بن عروس بشكل منتظم، فالأعمال لا تتوقف وكل فرد هنا يعرف مهامه وعمله، للحظات قد لا تسمع صوتا أو ضجيجا واضحا، غير أصوات الرافعات أو صوت المفاتيح، هذا الهدوء والسكينة انعكسا بشكل واضح على المكان ومرتاديه، فلن تجد أحدهم يتحدث بصوت عالٍ أو يحدث جلبة في المكان، حتى الزبائن هنا يجدون أنفسهم مدفوعين إلى أن يكونوا أكثر لطفا ومودة في تعاملهم مع كل الأفراد هنا.
يعتبر علي قصته وحكايته غير نمطية فقد تنقل بين عدة مهن قبل أن يستقر في مهنة صيانة السيارات، كما أن توقفه عن الدراسة كان من الممكن أن يكون حجر عثرة أمامه للأبد إذا لم يتمكن من تجاوز تلك الأزمة والسعي للتعافي منها واستثمار الفرص الجديدة التي واتته، يقول علي صرت مهووسا بفكرة أن العمل متوفر ولا أستمع لمن يقول عكس ذلك، العمل بكافة أنواعه ودرجاته متوفر في ليبيا لمن يريد أن يعمل بصدق، وهو ما أعلمه لأولادي ولكل رائد جديد في سوق العمل المحلية.