- عائشة الأصفر
صدفة جمعتني بـ ” كوامي”، شاب إفريقي، التقيته بلا موعد في مقهى سفر على الطريق الصحراوي ببلدة “الشويرف”، سحرتني نظرته المتمردة فاقتربت، ما إن قبِلَ مني كوب النسكافيه، حتى شعرتُ أني فزتُ بقصة طازجة وحقيقية من تلك القصص التي أتحيّنها وأتربّص بها، أنيق ومستدق الملامح السمراء، بقيافة مودرن، وشعره جدول لامع صغير يعتلي رأسه الحليق ومحدد بدقة، وأثر قطبتين لجرحٍ عميق أعلى حاجبه الأيمن، افتعلتُ جملة لأقتحمه وأتعرّف إليه: أوووه “عُصْمااان”! كيف أنت؟ هل تركتَ محل البقالة؟ وناولته القهوة، رد ببساطة: أنه ليس “عُصمان” أنه “كوامي” وأنه يرعى الغنم في الحماده القريبة مقابل تذكرة تهريب إلى العاصمة عبر البحر في الظلام فهو بلا جواز، يجيد الإنجليزية وهذا مختلف، ترك دراسته بفصول عليا في مجال الطبيعة، وهو اليوم في إجازة من الرعي، أضاف: لربما هناك أكملتُ تخصصي، أو ربما فقط أجدُ وجبة، لا أحد يعلم! كان وهو يعبث بتحريك عود الخشب وسط خثار الكريم دون أن ينظر إلي؛ يتحدث بمرارة وسخرية في آن.. بعد أن أنهى كوبه في رشفة واحدة طويلة، رفع نظره إليّ مبتسما وتابع: علاقتي بالرعي وبالمحطات وبالطرق وبالحياة مثل هذا الكوب الورقي، ورمى به في المكب المُعلّق، وابتسم، كان مهذبا لم يشملني ولم يقل وأنتِ، واحترمتُه، ابتسمتُ ولم أقلقه بشأني، فقد تكفّل فعله والابتسام بقول كل شيء. تزاحمت أسئلة محمومة: وقريته؟ وأمه؟ وحبيبته؟ هل بكوا لفراقه؟ كيف يتصل بهم؟ ألا يفكر بالعودة؟ ألم يكوّن علاقة هنا بغنيماته؟ هل سيبقى وراء البحر؟ رقم هاتفه؟ رقمي لأعرف رقمه الجديد؟ أيقبل مساعدتي؟ كيف وصل؟ هل تاهوا في الصحراء؟ كيف يعيشون فيها؟ والمطر؟ حال بيننا منبه السيارة الذي اشتد يستعجلني.. (ربي معك “كوامي”.. شكرًا “مامي”) ولم يبتسم. أكثر من تسعة أعوام ولم أنس “كوامي”، وأسئلتي تباغت، ومصيره هاجس، لماذا كلما عبرتُ ” الشويرف” يقف طيفه الهازئ في تلك الزاوية من المقهى، وهو يتحدث بمرارة وسخرية في آن! وفي طرابلس أتفحص وجوه الأفارقة في جزيرة فشلوم، وكوبري المصانع، والسياحية، وكل محطة رجاء، ولا رجاء، لأتفاجأ به اليوم على قناة غربية، نعم هو “كوماي”، كبر جدول شعره صار فتائل طويلة تهبط ملتوية إلى كتفيه، ولا زال أثر الجرح ظاهرا فوق حاجبه اليمين، تنوب المذيعة الحسناء عني وبلهجة سريعة بأسئلة موحدة له ولأربعة آخرين، عن الأم والوطن والحب والطريق. وإجابات موجزة مقننة بثلاث دقائق، أجاب ” كوماي”: ـ اسمي ” إيدي”، سافرتْ أمي إلى السماء، ووكّلتْ أمري إلى الأرض.ـ نحن لم نتركه حتى نعود إليه، إنه معنا، الوطن ليس مساحة رمل أطّرتْها يوما أحذية “كولونيل”، اخترقنا جهارا بدون جواز سفر. ـ الحب وهمٌ حقيقي، كمن يسمع وحده طرقا على الباب، سيتغير وهمه عندما ينشغل بوهم آخر، كأن يتوهم أحد متابعينا أنّ لي اسم غير ” إيدي”. ـ رحلة طريد، جعت وأهنت وبكيت، مررتُ بأماكن كثيرة، المكان الوحيد الذي تشرب فيه القهوة مجانا هو “ليبيـــا”@