بقلم :: محمد بعيو
بدعوة كريمة من مصرف لـــيـبـيـــا المركزي، شاركت أمس في ورشة العمل حول [بـرنـامـج الإصـلاح الاقـتـصـادي والـمـالي فـي لـــيـبـيـــا]، والذي سبق واشتركت في بعض الاجتماعات والحوارات التمهيدية له، بصفتي متخصصاً في الاقتصاد والعلوم السياسية، وكاتباً مستقلاً أغوص بقلبي وقلمي في هموم وقضايا الوطن، وأخوض في مآسيه وأزماته، ليس مع الخائضين العابثين، بل مع الباحثين الصادقين عن المخارج والحلول.
البرنامج الشامل الذي أنجزه المصرف من خلال نخبة من مستشاريه وخبرائه، وعرضه أمس على مجموعة من ذوى الاهتمام والتخصص، وسيتم عرضه على الرأي العام بعد إعادة صياغته وتبسيط مفاهيمة ومفرداته، استغرق العمل عليه ستة أشهر وجاء خلاصة لمجهودات صادقة واجتهادات واعية، فجاء متكاملاً وافياً لكنه بالطبع ليس كاملاً فالكمال لله وحده والنقص طبيعة البشر، لم يأت من فراغ الواهمين ولا من تهويمات المتبطرين العابثين ولا من من تفاهات السياسيين المزعومين، ولا نتيجة ضغوطات المزايدين في الإعلام ووسائل التواصل، بل نتاج عقولٍ علمية متجردة عن غواية الصراعات وهواية الثرثرات، آخذاً كل الحقائق والمعطيات، والتجارب والسوابق، والظروف والمتغيرات، والثوابت والنسبيات، جامعاً إياها في بوثقة المعرفة بانظباطها وتجريديتها وقطعيتها، لا في بواثق الهرج والمرج والسفسفات والاستقطابات.
نعم نحتاج وبإلحاح شديد والآن وقبل فوات الأوان إلى إصلاح نقدي، يتعلق ليس فقط بإعادة تقويم سعر الدينار الليبي بواقعية، بل بأزمات السيولة والاستثمار والإئتمان، وتفعيل كل الأدوات النقدية والمصرفية الهادفة لتحريك النقود وتدويرها لا إلى احتكارها واكتنازها، وإلى مواجهة الفساد المتمادي في إدارات المصارف التجارية العامة والخاصة على جميع مستوياتها، وإيقاف عبث الإصدار والطبع المزدوج للعملة دون ضوابط ولا معايير، لكننا نحتاج قبله أو حتى معه بالتوازي إلى إصلاح اقتصادي شامل يتضمن إيقاف الإنفاق العام المتمادي المترتب عن انشقاق السلطة وانعدام الإدارة وغياب الإرادة وتغييب القادرين، والذي جعل معدل الدين العام يصل إلى نسبة 200% من الناتج المحلي، وهو دين يتزايد وسيصل بالاقتصاد الوطني إلى حالة الانهيار التام ما لم يتم وبأسرع وقت انهاء انقسام السلطات وتشظي المؤسسات وغياب الأمن، وإبعاد الجهلة الفاسدين عن مفاتيح القرار.
إن العملة الوطنية هي في قيمتها وقوتها انعكاس حقيقي لحالة الاقتصاد العام، من حيث حجوم مدخلاته ومخرجاته ونشاطه ومنتجاته وهياكله وفعاليته، وليست انعكاساً للإحتياطيات النقدية بالعملات الإجنبية، والتي تتآكل تدريجياً بتناقص الدخل المباشر نتيجة الانخفاض في أسعار النفط، وتزايد الإنفاق والهدر المباشر عبر المصروفات الحكومية، وغير المباشر عبر الفساد العام والخاص، وهي احتياطيات ضعيفة قياساً بحجم الطلب عليها، لولا محافظة السيد الصديق الكبير عليها، ومقاومته لضغوط الحزبيين والسياسيين والمجرمين والفاسدين لتم تصفيرها واستنزافها، ودخلنا متاهة الاقتراض من المؤسسات الدولية، ولبكينا يوم ذاك على كل يوم كنا فيه قبل أن نصير إلى غيره فلا يجدينا البكاء عليه.
مجرمٌ واحد تافه أخرجته فبراير من مكانه الطبيعي في غياهب السجن إلى براحات الوجود تسبب بمنعه تصدير النفط في خسارتنا أكثر من مائة مليار دولار، وملف واحد فاسد هو علاج الجرحى استنزف عدة مليارات، ناهيك عن التهريب والتخريب والحروب والتعطيل والتهجير والحرق والتدمير الذي يمارسه المتصارعون الخونة وميليشياتهم المجرمة، وسياسيون نكرات جاءت بهم الانتخابات والاتفاقات ينفقون مئات الملايين على مآربهم ورحلاتهم ورشوة الفاسدين لإشعال الحروب وتأجيج الفتن.
نعم أكتبها قاطعة حاسمة:- لا يمكن إصلاح الاقتصاد دون إنهاء الصراع السياسي وتوحيد السلطة وتحقيق الاستقرار، ولا يمكن لمصرف لـــيـبـيـــا المركزي الذي وضعه المتصارعون في أتون الاحتراب والاستقطاب أن يقوم وحده بأي إصلاح إلا في حدود ما يجب عليه من تطوير هياكله وأدواته، والشروع في مواجهة وضرب المنظومة المصرفية الفاسدة، وهي أيضاً مهمة صعبة في ظل احتماء الفاسدين بسلاح المجرمين، وعجز السلطات المزعومة عن مواجهتهم، بل تواطؤها معهم وخضوعها لهم ومقاسمتهم المصالح والمنافع غير المشروعة.
الاصلاح ليس مستحيلاً، إلا إذا استمر الليبيون في ارتضاء دور المهانين واستمراء واقع الصمت المهين، وفي لـــيـبـيـــا من الخيرات والمقدرات ما يضمن لشعبها الاستقرار والرخاء شرط الخروج من قواقع السلبية وكهوف الاستسلام، وشرط أن تتوقف النخب عن خيانة ذاتها والولاء لأنانياتها فتنهض وتجتمع على كلمة سواء ليست مجرد كلمة بل برنامج وطني شامل لإعادة بناء الدولة قبل الطوفان.