هند الزيادي
اهتمت الدراسات الأنتروبولوجية في البدايات بالرجل وأعماله وتأثيره في مجتمعه وبيئته وازورّت بعينها عن المرأة ولم تتكلم عنها إلا باعتبارها عنصرا مكملا( في أفضل الأحوال) متغاضية عن كثير من المجتمعات النسائية الأولى التي تقوم على المجهود العضلي للمرأة وعلى قيادتها وتدبيرها .ولهذا نشأت الأنتروبولوجيا النسوية في بداية الستّينات لتملأ فراغات الدراسات الأولى المنحازة ولتسلط الضّوء على دراسة أوضاع النساء ودراسة النوع الاجتماعي ومكانة المرأة وعدة قضايا مرتبطة بها مثل الأمومة والجنس والجنسانية والجسد الأنثوي وموقف المجتمع منه، وموقف الرجل منه وموقعه في مختلف تمظهرات حياة الإنسان المعاصر.وما تجلّى من عنف عليه ومختلف تجليات ذلك العنف ونتائجه.
في هذا الإطار قرأتُ رواية “مدينة الأنصاف السفلى” للروائية آمنة الرميلي. وفي هذا الإطار قلت : لا تقربوا هذه الرواية…نعم لا تقربوا هذه الرواية إلا وقد قرأتم لمارجريت ميد وللآليس ميكي،رائدات الأنتروبولوجية النسوية. لا تقربوا هذه الرواية إلا وقد قرأتم لأرنولد فان ڨينيب وجون ماري برادييه ولجيمس فريزر وكلود ليفي شتراوس والشريف خزندار ولعبد الرحيم بوهاها أو لمحمد الجويلي.لا تقربوا هذا الرواية إذا لم تكن عندكم معرفة سابقة بمفهوم طقوس العبور، وبأهمية الحكي في المجتمعات البدائية وبمشهديات تجلّي الهوية …هذه التجلّيات الأنتروبولوجية / الإتنوسينولوجية هي قماشة الرواية الأصلية التي شكلت خلفيتها العميقة ومنها حاكت يد آمنه الرميلي روايتها وفصلت لنا أبوابها . يقول كلود ليفي شتراوس واصفا الأنتروبولوجيا: “إنّ هذا العلم يسعى للوصول إلى الموضوعية العلمية الأكثر صرامة بانتهاج الذّاتية الأكثر حميمية“
وهذا ما وجدته داخل هذه الرواية التي استخدمت فيها الروائية الذاتية والحميمية لتعالج وباء موضوعيا نبت وعرّش في مجتمعاتنا(العنف الذكوري ضد المرأة).
نبهت الكاتبة القارئ من خلال عتبة الإهداء إلى حدث بعينه في التاريخ وهو مقتل السيدة رفقة الشارني( 2021)برصاص من مسدس زوجها الوظيفي فهو عون حرس، كما يعلم الجميع.
إذ نقرأ في أول صفحة : “إلى رفقة الشارني.. إلى روحها التي تهيم هناااااااااااك في مدن العدالة المطلقة”.لم يكن هذا مجرد إهداء بل كان مفتاح كامل الرواية وشفرتها المخفية. لأن الرواية كرّست لأمرين رئيسين هما المرأة المعتدى عليها ومفهوم العدالة البديلة. فالروائية تنطلق من فشل المجتمع واقعيا في حماية النساء المعنفات لتقيم على أنقاض ذلك المجتمع مدينة بديلة تخييلية تتأسس على الثّأر والحقد المقدس بالأساس سمّتها “مدينة الأنصاف السفلى” وقسمتها إلى أربعة وعشرين فصلا اختارت له عناوين مختلفة.
الصدق أقول إنّني ما كنت أقرا الرواية متأثرة بعلاقتها بتلك الحداث الإجرامية المأساوية التي راحت ضحاياها كثير من النساء في تلك الفترة ومازلن ،مع احترامي الشديد لذكراهن ولمعاناتهن وآلامهن(حيّات كنّ أم شهيدات) ولكنّي كنت أبحث عن اللمسة الفنّية التي ستختارها الروائية لتعالج بها تلك الأخبار ولتنقلها من مستوى الواقع الفجّ إلى مستوى التخييل الفنّي الذي يجعل من الرواية عملا متميّزا متمايزا عن عمل الصحفي الذي نقل تلك الأحداث في جريدته أو في موجز الأنباء في قناته التلفزية.
لا تختار الكاتبة لمدينتها إطارا محددا، فلا زمان ولا مكان بل ضباب كثيف يتكاثف كلما تقدمنا في القراءة فهي تأخذنا لفم الزمان ، لذلك الحد الفاصل في التاريخ بين النشأة والتكوين ولا نكاد نعي علاقة كتابتها بزمننا الشاهد سوى من خلال بضعة إشارات لفيسبوك، أو لمهندسة الإعلامية ميارى.
تمعن الكاتبة في الغوص في مجاهل الماضي حين تستعير المقولة التي كتبها أفلاطون على باب بيته بل تتبناها وتجعلها ملكا لها بتحريفها . فقد كتب أفلاطون ، أو كما نسب إليه،” لا يدخلها علينا من لم يكن مهندسا” وبتحوير بسيط صار الشعار شعار مدينة الأنصاف السفلى التي أسستها “خضراء” : “من لم تكن مشوهة فلا تدخلنها علينا”. بقطع النظر عن محتوى هذا الشعار الذي سنعود إليه لاحقا، فمجرد استعارة الماضي واختيار العودة إليه لمعالجة القضية يطرح كثيرا من الأسئلة التي تتعمق مع تقدمنا في القراءة. حتى أشارف على نهايتها فيتكشف لي الجواب واضحا جليّا.
الكاتبة تجرد شخصياتها الروائية والمدينة كلها من كل مكتسبات الإنسانية “الحضارية” وتعود بها إلى عصورها الأولى، إلى عصرها الحجري، حين كان هم الإنسان غريزي: أن يأكل ويجد ما يكفي من الأمان ليستمر النوع. تتخلّص من كل مظاهر “التمدن والتطوّر”…تتخلص من كل الشعارات الرنانة التي خدرت بها الإنسانية نفسها طيلة قرون وقرون وقرون عن العدالة والحق والإنسانية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة لتصور لنا نفوسا بشرية بدائية ما تزال محركاتها بدائية أيضا: العدوان ، الجوع (بجميع أنواعه)، الخوف ، القتل ، الثّأر، الدفاع عن النوع….كلها مشاعر غريزية عارية تكشف حقيقة الذكر والأنثى في المدينة التي أرادتها فاضلة بطريقتها.
ترسم لنا الساردة الأولى/خضراء مدينة حجرية منحوتة في جوف الجبل، كل ما فيها يذكرنا بمغارات لاسكو وجعيتا وكهوف الإنسان البدائي الأول الذي كان يفسر كل شيء يحييره بالحكي والأساطير والخرافات. مدينة قُدّت في جبل ما كل ما فيها تضاريس جرداء قاسية. الحياة فيها حرب يومية للبقاء. إكسير الحياة داخلها هو الثأر واستمراريتها بحسب درجة قوة ذلك الثأر وقدرته على دفع ساكنات المدينة إلى تحقيق هدفهن الرئيس وهو الثأر من كل الذكور الذين آذوهن. كل ذكر تلوثت يداه بدم امرأة هو مترشح مناسب ليكون فريسة نساء مدينة الأنصاف السفلى.
أسست هذه المدينة لإقامة ميزان العدل الذي استهانت به المجتمعات الأخرى التي يحكمها الذكور فتغاضت عن العدالة وسمحت لهم أن يفعلوا بالإناث ما حلا لهم. في هذه الرواية يتجرد البشر من كل إنسانيتهم وكل مكتسباتهم الحضارية ولا نراهم إلا ذكرا وأنثى تحركهما غريزة الجنس وغريزة الثأر فلا نكاد نعثر على كلمة إنسان أو إنسانية بين الصفحات. أسست المدينةهي الأخرى على أسطورة النساء الصهباوات المغنيات العابثات اللواتي كن يتغذين على ما يقدمه الناس من هبات. لاشيء يثبت هذه الأسطورة سوى الكلمات. (استحضار لأسطورة حوريات أوليس واستغلالهن لقدراتهن الفنية والجمالية والجنسية للسيطرة على الملاحين التائهين)
أما عن ساكنات تلك المدينة فحكاية أخرى. كلهن من النساء المعطوبات المشوهات، أسماؤهن ناضحة بالحياة والجمال(خضراء ، نوارة، سماح، عفيفة سالمة، خيرة) لكنهن مشوهات من الخارج والداخل. مورست ضدهن كل أصناف التعذيب والوحشية والأذى.لذلك تدور حياتهن في مدينة الأنصاف السفلى حول الثار والحقد المقدس. تقول الكاتبة على لسان احدى شخصياتها( ص160):” هي تأخذ النساءالمشحونات بالحقدليثأرن لقهرهن ويفجرن في وجوه ذكورهن وأجسادهم ألذ الغرائزوأشدها توحشا: الثأراسترداد الحق في ردّ الأذى بالأذى، في مقايضة الوجع بالوجع.”
تخضع ترتيب دخول النساء إلى مدينة الأنصاف السفلى إلى طقوس عبور محددة : الاعتراف، الحق في البكاء، الحمام (الطهارة)، حلق الرأس، وهذه طقوس تعبر بها النساء من وضع الضحية إلى توصيف الناجية المتعلمة الجديدة .وهي رتبة تجبرهن على خوض تدريبات جسدية ونفسية قاسية من الحفاظ على جاهزيتهن للثأر من ذكورهن. في تلك التدريبات تتخلى النساء طواعية عن الصورة النمطية التي يرسمها لهن المجتمع الذكوري فيحلق الرأس وتودعن الرقة والأنوثة ليحل محلها الحذاء العسكري والعضلات القوية والصوت الجهوري الذي لا يرتعش.
ولو سمحت لنفسي بالتجاوز لقلت إن الرواية استضافتنا في المعسكر التدريبي للجناح العسكري للنسوية.
لا تستعير الكاتبة من القاموس الأنتروبولوجي/ الاتنوسينولوجي مصطلح طقوس العبور فحسب بل تفصل لنا الوضع التراتبي لنساء المدينة فإذا هن مصنفات حسب دورهن إلى: رؤوس/قائدات، معلمات، صيادات،حارسات، مشرفات تظطلع كل منهن بمهمتها لا تحيد عنها. تتقسم بينهن الأدوار كما كانت تقسّم في القبائل البدائية. وتحتل الحكّاءة (نوارة)مكانة تأسيسية مهمة وسطهن لأنها هي المكلفة بالدفاع عن جذوة الحقد المقدس واستمراريتها من خلال قصّ حكاية عذاب كل وافدة جديدة للمدينة أو من خلال قص تاريخ نشأة المدينة نفسها على رائداتها. فالحكي في الرواية كما يقول عبد الرحيم بوهاها في كتابه الجميل “طقوس العبور في الإسلام” هو استحضار للزمن الأولي زمن التأسيس المقدّس وجعله فاعلا في واقع الناس وحاضرهم”، الحكي يثبت وجع النساء في الزمن ويعطيه عناوين ويكسوه تفاصيل موجعه تتكفل بإشعال نار الحقد المقدس وتكون محركا رائعا قويا للثأر من كل الرجال.
هذه المدينة تقيم العدالة بطريقتها.
لا يتوقف الحفر الأنتروبولوجي عند هذا بل تستخدمه الكاتبة آمنة الرميلي لتحفر في قاموس اللغة وتصل إلى عمق أعماق مفردات الوجع والعذاب مازجة بين الفصحى والدارجة في اختيار واع بقدرة تلك العبارات الدارجة على الطعن وتفجير المعنى في ذهن القارئ وهي تتأنّى وتأخذ كل وقتها في ذكر تفاصيل العذاب الذي ذاقته كل مرأة على يد “ذكرها” كما تقول هي مزيحة مصطلح الرجولة تماما من حيز الاستخدام… تتفنن في ذكر تفاصيل التعذيب إذا لتشرّع فيما بعد لتفاصيل الإنتقام وفنونه، ولا تتوانى عن رسم مشهديّات احتفالية في حفلات الثأر والتعذيب” مستلهمة من تاريخ طويل للعرب في فنون القتل والتعذيب (الجدير بالذكر أن هذا كان موضوع كتاب مهم للكاتبة آمنة الرميلي عنوانه “كتابة القتل في الأدب العربي القديم”)، ومستلهمة الأمر ، كذلك من بعض ما شرعه الفقهاء من مظاهر العقاب والقصاص لنوعية معينة من “المجرمين”. هذه المشهديات هي موضوع رئيس في الدراسات الإتنوسينولوجية التي تهتم بها من خلال تموضع “المحتفلات وأدوارهن حول مسرح الاحتفال ، وتستحضر الكاتبة كذلك في رسم المشهديات طقوس التضحيات الأولى والقرابين البشرية عندما كانت الإنسانية في مرحلتها البدائية الأولى تضحّي بالبشر والأطفال الصغار والعذراوات لقوة ما لتأمن شرّها أو تستدر عطفها وعطاياها. غير أن القربان في مدينة الأنصاف السفلى يكون دوما ذكرا ( أبا، أخا، جدّا ، زوج أمّ، زوجا) يقدّم قربانا لإله الانتقام والثأر حتى تظل نار الحقد مضطرمة متأججة لا تنطفئ أبدا. هنا بالذات نفهم لماذا وقع اختيار الكاتبة على هذا السياق الأنتروبولوجي لتشتغل من خلاله على روايتها: يجب أن يُقدّم السرد داخل أطر بدائية جدا ليبرّر تلك المشاعر والأفعال البدائية جداّ. ففي الرواية لا نسمع صوتا يعارض الإعدام ولا نسمع صوتا يدعو إلى الحوار أو يدعو إلى التمسك بالقانون.لا صوت يعلو فوق صوت الثأر، لا صوت يعلو فوق صوت معركة الكرامة .كل الضحايا تصرخن بنشوة عارمة وفرح وارتياح عند “نفوق” ذكر تم اصطياده وجلبه بالحيلة إلى بطن الجبل.
لا أشعر أني قلت عشر ما كنت أريد قوله في هذه الرواية وجمالها، رواية اشتغلت بعمق وحفرت بسكين حام في اللغة و في جمالية القبح والدم والقتل والبشاعة لتخلخل برود المجتمع وخيانته للأم الأولى، لواهبة الحياة من رحمها/الجنة لذلك كان كل ما شعرت به أنها كانت رواية-رصاصة أطلقتها الكاتبة آمنة الرميلي من قلمها لتفجر بها اطمئنان المجتمع إلى إنسانيته المزيفة التي تتغاضى عن الضحية وتتخلى عنها تحت عدة مسميات إلى أن تموت تقتل تحت نظر الجميع والجميع صامتون ومتواطئون.
الرواية لكمة في فم معدتك أيها القارئ لأن الكاتبة ترمي بين يديك كرة جمر وتعيدها إلى حضنك متسائلة : ما رأيك في ثأر النساء بعد كل ما وصفتُه لك أيها القارئ؟ هل تراه مشروعا؟ما رأيك في انقلاب موازين القوة لصالح النساء هل تراه يشرع للعنف ويبرره ما دام الحق في عرفك وعرف مجتمعك دوما في صف من يملك القوة.
قصة المدينة بدأت حقيقية جدا حتى آخر الصفحات أين نعرف أنها كانت في الحقيقة تهويما في ذهن الضحية خضراء التي وصلت للكوما وظلت عالقة بين عالم النور وعالم الظلام الشاهد ثم عادت على يد رحيمة هي يد الطبيب بعد أن دفع زوجها الأمني النافذ برجاله إلى افتعال حادث بسيارتها للتخلص منها. لكنّ هذه الحيلة السردية جعلت المدينة وأمرها تظل احتمالا فنّيا مطروحا يوقد نار السؤال ويحرّك السواكن وهذه هي وظيفة الفن والأدب الأولى في اعتقادي.














