لكي لا ننسى ! جماهيريّة الرعب.. سيرة المخزومي وقصّـة إعدامــه

لكي لا ننسى ! جماهيريّة الرعب.. سيرة المخزومي وقصّـة إعدامــه

شنت أجهزة القذّافي الأمنيّة حملة اعتقالات واسعة على أكثر مِن ألف مواطن مِن المُثقّفين وأصحاب الأفكار والاتجاهات السّياسيّة المختلفة، والّتي أعقبت خطاب معمّر القذّافي في مدينة زوارة في 15 أبريل 1973م الّذِي تمَّ الإعلان فيه عَن التغيير السّياسي والاجتماعي فِي ليبَيا تحت مُسمّى «الثورة الثقافيّة»، وعُرف بـ«خطاب النقاط الخمس»، لأنه اشتمل على خمس نقاط هي فِي حقيقتها إلغاء للدولة وإحلال للفوضى، تحت مُسمّى «الثورة الشعبيّة وحكم الجماهير والقضاء على البيروقراطيّة»، متمثلة فِي:تعطيل كافة القوانين المعمول بها.القضاء على الحزبيين وأعداء الثورة.إعلان الثورة الثقافيّة.

الفنّان الرَّاحـل عُمر المخزومي بريشة الفنّان محمّد زيـــو.

إعلان الثورة الإداريّة والقضاء على البيروقراطيّة.إعلان الثورة الشعبيّة. وشنت الأجهزة سالفة الذكر حملة اعتقالات أخرى فِي صيف 1975م، طالت حوالي ثلاثمائة ضابط وضابط صف مِن قوَّات الجيش الِلّيبيّ بتهمة الاشتراك فِي مخطط يستهدف قلب نظام الحكم، وهي المحاولة الّتي ارتبطت باسم الرَّائد عمر عبدالله المحيشي. ويذكر أنَّ السّلطات الأمنيّة كانت قد اعتقلت حوالي ثلاثين ضابطاً مِن ضبّاط الجيش فِي أوائل ديسمبر 1969م، اتهموا بالاشتراكِ فِي محاولة تستهدف نظام الحكم.ومِن 4 يناير 1976م إلى الأسبوع الأوّل مِن أبريل مِن نفس السنة، شنت الأجهزة الأمنيّة حملة اعتقالات واسعة طالت الكثير مِن الطلاب وعدداً آخر مِن الوطنيين، على خلفية المظاهرات الّتي قام بها الطلاب فِي يناير 1976م احتجاجاً على تدخلات السّلطة فِي شؤونهم الطلابيّة وعملهم النقابي.

وكان دبـّوب وبن سعود المعلمان والطالبان المنتسبان للجامعة مِن ضمن الّذِين اعتقلوا فِي هذه الحملة الواسعة الّتي شملت مئات الطلاب مِن الجامعة والمعاهد والمدارس الثانويّة. وبعد مدة بسيطة مِن الاعتقالات الّتي جرت على خلفية المظاهرات المذكورة، أودع عُمر المخزومي فِي السجن، وبعْد ثمانية أشهر مِن اعتقاله، اقتيد إِلى ميناء بّنْغازي ونُفذ فيه حكم جائر بِالإعدامِ !؟.

ويُذكر أن معمّر القذّافي كان قد ألقى خطاباً فِي الطلبة فِي 7 أبريل 1976م، أشار فيه إِلى إعدامات قادمة، وأن اللّجان الثوريّة الّتي تتشكل الآن، ستكون مهمتها تصفيّة الرجعيّة وتنقية القاعدة الطلاّبيّة وتنقية هيئة التدريس، مِن المندسين وأصحاب الأفكار المريضة.

وفِي الخطاب المذكور الّذِي نقلته صحيفة “الجهاد” الحكوميّة الصّادرة يوم 8 أبريل 1976م، قال القذّافي: «أريد ثورة ثقافيّة تغسل مخكم العفن هذا !، وإذا كان عدو الثورة سيقود الطلبة فأنتم جميعاً قطيع غنم، أنا قرأت بعض النشرات الّتي يكتبها بعض الهلافيت مِن الجامعة، وقد جاء الوقت لقطع أيديهم ثمَّ رقابهم.. إنَّ الّذِي يحدث الآن هٌو تشكيل (لّجان ثوريّة) فِي كلِّ كلية مِن الكليات، تقوم بتصفيّة القاعدة الطلاّبيّة وهيئة التدريس.. إنَّ أرادوها بسلام وإلاّ فلتكن بالدّمَّ.. لابُدّ مِن تشكيل لّجان ثوريّة فِي كلِّ مكان ومهمتها تنقية القاعدة الطلاّبيّة وتنقية هيئة التدريس».

اعتقلت أجهزة القذّافي الأمنيّة عُمر المخزومي ومعه موطن مصرى يُدعى أحمَـد فؤاد فتح الله، وقبلهما اعتقلت عُمـر دبّوب ومحمّد بن سعود، وأقدم معمّر القذافي في 7 أبريل 1977م على خطوة إعدام هؤلاء الأربعة شنقاً فِي ساحة «ميناء بّنْغازي»، و «ميدان الكاتدرائيّة» وسط المدينة، وطلب مِن منفذي جريمته ترك الشهداء معلقين لمدة ست ساعات على حبل المشنقة، ثم أمر وسائل إعلامه نقل مشاهد الإعدام فِي وسائل الإعلام المرئيّة، وعلى صفحات الجرائد.

قال الرَّاحل نوري رمضان الَّكيخيّا (1940م- 25 مارس 2017م) لصحيفة ميادين، مَا يلي: «.. حضـرت شنـق دبّوب ومحمّد بن سعود، كانت الساعة الثالثة والنصـف بعْد الظهر، كنت قد تناولت الغداء في بيت خالتي عند إدْريْس لنقــي.. وبعد الغداء قلت له خذني إِلى مكتبي بالشركة (الخمسية) بميدان سوق الحـوت. وقبل الغداء، كُنت قد ذهبت مع جلال الدغيلي عند الكنيسة أو (ميدان الكاتدرائيّة)، فلاحظنا التجهيز لأعمدة المشانق..

وأتذكر أن جلال الدغيلي قال ليّ: “يا ساتر إنَّ شاء الله غير مش إعدامات عسكريّة فِي هالميدان». عندما أوصلني إدْريْس لنقــي إِلى مكتبي بسوق الحوت وجدت تجمعاً وناساً يتحدثون عَن إعدامات.. ذهبت عند الكنيسة فإذا بيّ أرى المشانق، ووجدت صديقي سراج بوقعيقيص واقفاً فحدثني بِالفرنسيّةِ فقال: «رُبّما هي دُمى» فقلت له: «لا هم ناس حقيقيون”. أقدامي توقفت، وكأنها ربطت فلم أستطع التقدم.

كان منزل أستاذنا محمّد فرج حمّي (1921م – 1980م) بشارع درنة، أقرب مكان ألتجئ له. عندما فتح ليّ الباب.. انهرت وقلت له: “مشانق يا أستاذي فِي بّنْغازي”.. قال ليّ: “لا تبكي لسنا نحن مَنْ يبكي”.. فقلت: “أنا أوَّل مرَّة أرى مشانق ومشنوقين.. وإنّهم أصحابي وأعرفهم”.

فقال ليّ الأستاذ مجدَّداً: “اسمع يا نوري.. ما دام بدأ فِي هذا البرنامج فلن يوقفـه شيء، هؤلاء كلاب دّمّ وسيستمرون في هذا الطريق”..». والشّاهد، ذهبت سيارتان تحملان عُمر دبّوب ومحمّد بِن سعود إِلى ميدان الكاتدرائيّة.. وسيارتان أخريان إِلى ميناء بّنْغازي تحملان المخزومي والمواطن المصري، وبعد دقائق مِن وصولهما إِلى الميناء، شاهد المواطنون المتواجدون فِي المكان روحيهما الطاهرتين تفارق الحيَاة بعْد تعليقهما على حبل المشنقة. أُعدم عُمر المخزومي شنقاً يوم 7 أبريل 1977م، فِي ساحة ميناء بّنْغازي – ودون محاكمة – بتهمة تفجير ميناء بّنْغازي !!.. المخزومي الفنّان صاحب الصوت الشجي، الّذِي لم يعِش طويلاً، وتمَّ إعدامه ظلماً، ولم يتجاوز عمره الخمسة والأربعين عاماً، والّذِي ترك بصمة فنّيّة مميزة رغم مشواره الفنّى القصير، وله العديد مِن الأغاني الّتي ذاع صيتها كأغنيّة: «شقيت في غيابه»، «كنت اتصارحني»، «جيتي وجيتينا»، وغيرها الكثير والكثير. أصبح شهر أبريل من كلِّ سنة، ومنذ تاريخ إعدام عُمر دبـّوب ومحمّد بن سعود وعُمر المخزومي، موعداً أو روتيناً سنوياً للانتقام الدموي مِن كافة العناصر الوطنيّة المناوئة لحكم الاستبداد والفوضى والتخلف.. موسماً للقتل ومهرجاناً للدّمَّ !!. سيرة المخزومي وقصّـة إعدامــه (*) انقلب الملازم معمّر القذّافي فِي الأوَّل مِن سبتمبر سنة 1969م، على السّلطة الشّرعيّة فِي البلاد، وحكم ليبَيا بالحديد والنَّار لمدة اثنين وأربعين عاماً، وأعاد إِلى أذهان الِلّيبيّين مَا كان جارياً فِي عهد الاستعمار الإيطالي البغيض. أعاد إِلى أذهانهم مشاهد الإعدامات العلنية مثلما كان يحدث فِي عهد الاستعمار، حيث قامت سّلطات نظام حكمه المستبد والمتوحش ضدَّ أبناء شعبه، في اليوم السّابع مِن شهر أبريل 1977م، بإعدام محمّد الطيّب بِن سعود وعُمر علي دبّوب شنقاً في «ميدان الكاتدرائية» والمعروف أيْضاً بـ«ميدان الاتحاد الاشتراكــي»، وفِي نفس اليوم والسّاعة أُعدم شنقاً عُمر الصّادِق المخزومي «مطرب»، وأحمَـد فؤاد فتح الله «عامل مصري الجنسيّة» فِي ميناء بّنْغازي

ويُذكر أن معمّر القذّافي، وقبل اعتقال المواطن المصري بفترة وجيزة، كان قد طرد فِي 25 فبراير 1976م العمالة المصريّة وضيَّق الخِناق على المصريين المقيمين فِي ليبَيا. والشّاهد، بعد أن وصل المذكوران إِلى المكانين السالفين الذكر، شاهد المواطنون المتواجدون فِي الميناء ونواحـي ميدان الكاتدرائية، مشاهد الإعدام المفزعة وأرواح هؤلاء الأبرياء الطاهرة تفارق الحيَاة بعْد تعليقهم على حبل المشنقة. والّذِي حدث، انتشرت عناصر مِن القوَّات المُسلّـحة وأفراد مِن الشّرطة وسط مدينة بّنْغازي، بَعْد ظهر يوم الخميس 18 ربيع الثّاني 1397 هجري الموافق 7 أبريل 1977م، ووقفت عربات الجهازين وعدد مِن عناصرها فِي مداخل المدينة، وعلى الشوارع الممتدة مِن ميناء بّنْغازي إِلى ميدان الكاتدرائيّة على وجه مكثف.

جاءت سيارتان إِلى ميدان الكنيسة، واتجهت سيارتان أخريان إِلى ميناء بّنْغازي. كانت السيارتان المتجهتان إِلى الميناء تحملان المخزومي، والمواطن المصري، وبعد دقائق مِن وصولهما إِلى المكان، شاهد المواطنون المتواجدون فِي منطقة ميناء بّنْغازي روحيهما الطاهرتين تفارق الحيَاة بعْد تعليقهما على حبل المشنقة. أمّا السيارتان اللتان وصلتا إِلى ميدان الكاتدرائية، وكانتا تحملان دبـّوب، محَمّد بِن سعود، وضعتا الضحيتان فِي الميدان وتمَّ إعدامهما مباشرة، ويقال إن عمليّة الإعدام تمّت تحت إشراف معمّر القذّافي الّذِي كان موجوداً فِي شرفة أحد المباني المطلة على الميدان المنصوب فيه المشنقة .

حيث يؤكد بعض شهود عيان إنّه كان موجوداً فِي أحد المباني المطلة على ميدان الكاتدرائيّة، وكان إِلى جانبه: يونس بالقاسم علي وزير داخليته وقتئذ، والنقيب عبدالله السّنوُسي الّذِي صار فيما بعْد ذراعه اليمنى. وتوالت بعد ذلك «حفلات الإعدام» فِي شهر أبريل مِن كلِّ عام.. أُعدم مُصْطفى ارحومة النويري شنقاً فِي السّاحة الواقعة بين كليتي القانون والطب، بجامعة بّنْغازي، حيث اقتيد النويري إِلى حبل المشنقة، ثم تركوه يتدلى، ليلقى وجه ربه الأعلى، وذلك فِي أبريل 1984م.

وأُعدم رشيد كعبّار فِي جامعة طرابلس يوم 7 أبريل 1983م، وقد أُنزل مِن سيارة عسكرية مصفحة، واقتادته مجموعة من الغوغائيين إِلى حبل المشنقة ظلماً وعدواناً، كمَا فعل الطليان الفاشست بجده المجاهد الهادي كعبّار. كذلك، أعدم فِي الجامعة محمّد مهذب حفاف وحافظ المدني.. وغير هؤلاء كثيـــرين. إعدامات كانت تنقل مباشرة على شاشات التلفزيون، ويرغم النَّاس على حضورها، وتحدث وسط انطلاق الأهازيج والأغاني والزغاريد والتصفيـــق، وكانت مجموعة الغوغائيين تردد وراء المجذوب الهتافات القائلة:

اطلع ياخفاش الليل .. جاك السابع من ابريل

ما نبوش كلام لسان .. نبو شنقة في الميدان

صفيهم بالدم يا قايد .. سير ولا تهتميا

مداير للمرأه شان .. عليه انموتو في الميدان

النار النار.. الدم الدم .. الطالب علي الموت امصمم

وقبل الإعدامات العلنيّة الأولى فِي ميدان الكاتدرائيّة وساحة ميناء بّنْغازي، قام نظام القذّافي فِي 2 أبريل 1977م بإعدام واحد وعشرين ضابطاً مِن المشاركين فِي محاولة المحيشي الانقلابية، فِي معسكراتهم، رمياً بالرصاص. أمّا عُمر المحيشي فقد تمَّ ذبحه بعْد أن سلمته المغرب إِلى نظام القذّافي !.

ويُذكر أن المحيشي قاد انقلاباً عسكرياً على معمّر القذّافي فِي العَام 1975م، وبمعاونة واحد وعشرين ضابطاً، بسبب تعطيل القذّافي للعمليّة الدّستورية فِي البلاد، وأنه نجح عقب فشل محاولته الانقلابية للفرار مِن ليبَيا قبل القبض عليه، إِلى تونس أولاً ثمَّ إِلى مِصْر فِي فبراير 1976م، ليؤسس ويقود “التجمع الوطنيّ الِلّيبيّ” كتنظيم معارض مِن المنفى يسعى للإطاحة بنظام القذافي، والّذِي تمَّ تسفيره فِي سنة 1980م مِن مِصْر إلى المغرب عقب اتفاقية كامب ديفيد الّتي وقعتها مِصْر مع إسرائيل، والّتي أعلن المحيشي معارضته الشديدة لها. قام نظام الحسن الثّاني فِي العَام 1983م بتسليم المحيشي لنَّظام القذّافي، وتمَّ ذبحه بعد وصوله إِلى جماهيريّة الرعب مباشرة

الصّادِق ابن المرحوم عُمر المخزومي، فِي حديث له فِي برنامج: «نجوم الزمن الجميل»، المذاع على فضائيّة: «ليبَيا روحها الوطن»، تاريخ 12 مارس 2021م. ِ

وهذا مَا أكده عبدالرَّحمن شلقم المندوب السّابق لليبَيا فِي الأمم المتَّحدة فِي الحديث الّذِي أدلى به لصحيفة “الحيَاة” اللندنيّة فِي 16 يوليو 2011م، وكرره الرَّائد عبدالمنعم الهوني فِي الجزء الأوَّل مِن الحوار الّذِي عقدته معه قناة “الجزيرة مباشر مصر” فِي 30 أكتوبر 2011م.

قال الهوني فِي الحوار المُشار إليه: «ذُبح عُمر المحيشي بعد تسليمه مِن قبل دولة المغرب إِلى جماهيرية الرعب إثر ونتيجة صفقات سياسيّة ومالية بين القذّافي والمَلِك الحسن الثاني، ومقابل أن يدفع القذّافي إِلى المملكة المغربيّة مائتي مليون دولار ومليون برميل نفط ومليون طن قمح، ويتوقف عَن دعم جبهة البوليساريو». وعودةإِلى المخزومي، ففنّاننا الرَّاحل، اسمه الحقيقي هُو: عُمر الصّادِق مسعود الخازمي، وقد أطلق عليه اسم «عُمر المخزومي» كاسم فنّي، الفنّان الرَّاحل حسن عريبي (1933م – 18 أبريل 2009م) المُوسيقار الكبير ومؤسس «فرقة المالوف والموشحات» فِي الإذاعة العَام 1964م. ولد المخزومي فِي منطقة خريبيش بشارع البعجة وسط مدينة بّنْغازي، وكان ذلك فِي العَام 1932م.

ودرس فِي مدارس بّنْغازي، وحفظ أجزاء مِن القرآن الكريم على يد شيخ مسجد ميدان الحدادة. عمل موظفاً إدارياً فِي ميناء مدينة بّنْغازي، وكان يمتلك محلاً للملابس الرجاليّة والنسائيّة فِي شارع العقيب، أحد أقدم شوارع المدينة والّذِي أسسه أو شيده إبراهيم بِن يعقوب خلال القرن الثامن عشر الميلادي، الشّارع السكني والتجاري الّذِي يربط بين أهم ميدانين مِن ميادين مدينة بّنْغازي القديمة هما: ميدان الشجرة وميدان سوق الحوت، وعَن طريقه يمكنك الوصول إِلى ميدان آخر هُو: ميدان ضريح شيخ الشهداء عُمر المختار. خدم عُمـر المخزومي بالجيش الِلّيبيّ فِي مطلع خمسينات القرن المنصرم، وشارك فِي حرب التَّحرير الجزائريّة إِلى جانب ثوار الجزائر، وكان عاشقاً للحريّة ومحباً الفن.

وانتسب إِلى نادي الهلال فِي بّنْغازي، ولعب كرة القدم مع فريق النادي، ولكنه لم يستمر طويلاً فِي الرياضة، نظراً لولعه الكبير بالفن. أحب الفن وتعلق بفنّانين الزمن الجميل، وكان متابعاً للحركة الفنّيّة العربيّة وتطورها على يد كبّار الموسيقيين الّذِين أحدثوا النقلة الأساسيّة وصاغوا الجملة الموسيقيّة الّتي ميزت الموسيقى العربيّة عَن غيرها، والّذِين تسلموا الرايّة مِن الجيل الّذِي سبقهم، وكانوا علامة فارقة:

سيِّد درويش أولاً، ثمّ الأربعة الّذِين جاءوا بعده: محمّد القصبجي، زكريا أحمَد، محمّد عبد الوهاب، رياض السنباطي، ومِن بعدهم أربعة آخرون: محمّد فوزي، فريد الأطرش، محمود الشّريف، أحمَد صدقـي. أحب المخزومي، عبدالوهاب وفريد وفيروز وأم كلثوم ومحرم فؤاد وغيرهم مِن فناني الزمن الجميل، ولكن فريد الأطرش (1917م – 26 ديسمبر 1974م) كان الأقرب إٍلى نفسه، ويعتبره الموسيقار الأكثر براعة، وصاحب الصوت الكرواني الّذِي ليس كمثله صوت، وعازف العود البارع الملقب بـ«مَلِك العود». التحق بالإذاعة الِلّيبيّة فِي الخمسينات ، وكان أقرب الفنّانين إليه: الملحن والموسيقار يُوسف العالم، المطرب محمّد صدقي، الشّاعر الغنائي محمّد مخلوف، الشّاعر يوسف بِن صريتي.

ومِن أشهر أغانيه: «شقيت فِي غيابه» الّتي كتب كلماتها صديقه الشّاعر الغنائي: محمّد مخلوف، ولحنها الملحن عبدالحميد شادي.. وأغنية: «عدت باليوم» الّتي كتب كلماتها صديقه الشّاعر الغنائي: محمّد مخلوف، وهي مِن الألحان الشعبيّة الشهيرة.. وأغانٍ جميلة أخرى ظلّت تذكر النَّاس بأسمى معاني الحبّ والشّوق والحنين، كأغنيّة: «صون الغلا»، وأغنيّة: «يا طير يا حايم»، وأغنيّة: «قلبي أنساه الحب». عُرف المخزومي بأناقته، وحبه للملابس الجميلة والتأنق وعموم الطيبات، حيث اشتهر بالطلّة البهيّة والتعطر أي محبته للعطور والروائـح.

وقد عُرف بين أبناء جيله بشياكته وأناقته وابتسامته الدّائمة، لدرجة أن أحد أصدقائه أطلق عليه لقب: «الفنّان الأنيق». لم يُغَنَّ لانقلاب الأوَّل مِن سبتمبر، ولم يكن يطيق الملازم معمّر القذّافي الّذِي انقلب على الشّرعيّة وصار حاكماً للبلاد. وبعد شهور قليلة مِن أحداث الطلبة فِي يناير 1976م، تمَّ إلقاء القبض عليه وأُودع فِي السجن، حيث القي عليه القبض فِي أحد أيّام شهر رمضان المبارك، وعند ساعة الفجر، والّذِي كان يوافق شهر أغسطس مِن العَام 1976م. برأته «محكمة الجنايات» بطرابلس، مِن التهم المنسوبة إليه، ولكن معمّر القذّافي لم تعجبه الأحكام الصادرة بحقه وحق بعض زملائه مِن أمثال: محمّد الطيّب بِن سعود وعُمر علي دبّوب، فأعيدت محاكمة الأسماء المذكورة أمام محكمة صورية لم يتوفر فيها أي معني للعدالة، وحكم عليه وعلى زميليه بالإعدام شنقاً. أُعدم محمّد بِن سعود وعُمر دبّوب شنقاً، وفِي نفس اليوم والسّاعة أُعدم شنقاً عُمر المخزومي، وكان ذلك بَعْد ظهر يوم الخميس الموافق 7 أبريل 1977م. وعاشت ليبَيا بعْد إعدام هؤلاء الأبرياء سنوات غايّة فِي القسوة والبؤس خصوصاً فِي حقبة الثمانينات..

وعانت أسرة المخزومي بعْد إعدامه معاناة شديدة، خصوصاً بعد أن رفضت سلطات القذّافي تسليمهم جثمانه ودلّهم على مكان قبره، واختفي بعْد ذلك اسمه مِن السّاحة الفنّيّة، وشُطب أرشيفه الغنائي مِن أرشيف الإذاعة والتلفزيون، وعمّت البلاد حالات مِن الرعب والخوف وعدم الأمان لدرجة أن أحداً لم يكن يجرؤ – وطوال سنوات حكم القذّافي – الاستماع إِلى أغاني المخزومي أو ذكر اسمه والإشارة إليه.

أخيراً، اعتمد معمّر القذّافي شهر أبريل مِن كلِّ سنة.. كموسم للقتل.. والإرهاب للمواطن الِلّـيبيّ. وخسرت ليبَيا والأمّة الِلّيبيّة خلال سنوات حكمه الّتي امتدت اثنين وأربعين عاماً، الكثير مِن الأرواح والأموال، وفوّت نظام القذّافي الانقلابي على البلاد فرصة ذهبيّة للنهوض والعمران، بل خلَّفها وأرجعها عقوداً إِلى الوراء.

عُمر المخزومي وثورة السّابع عشر مِن فبراير بعْد اندلاع ثورة السّابع عشر مِن فبراير مِن العَام 2011م، الثورة الّتي انتظرها الجميع بفارغ الصبر، والّتي سبقتها تضحيّات جسام ومحاولات فرديّة وجماعيّة بغيّة التخلص مِن نظام القذّافي الاستبدادي الّذِي جثم على صدور الِلّيبيّين أكثر مِن أربعين عاماً, وقف الشّعب الِلّيبيّ وقفة رجل واحد لأكثر مِن ثمانيّة أشهر، فِي مواجهة قوَّات نظام القذّافي، النَّظام الّذِي لم يروا منه إلاّ الضيم والبؤس والعذاب والشقاء. انطلقت ثورة السّابع عشر مِن فبراير، مِن مدينة بّنْغازي، مسقط رأس عُمر المخزومي، واتخذ الثوار مِن ساحة محكمة شمال بّنْغازي، والّتي أُطلق عليها فيما بعد اسم: «ساحة التَّحرير»، مكاناً لتجمع النَّاس، وساحةً لتعبر عَن مواقفهم وآرائهم، ونقطة انطلاق لدعم ومناصرة الثورة وثوارها في جبهات القتال.

وكان الصّادِق ابن الشهيد عُمر المخزومي، والّذِي كان طفلاً وقتما أُعدم والده، مِن أوائل المتواجدين فِي ساحة محكمة شمال بّنْغازي، والمناصرين لثورة السّابع عشر مِن فبراير والواقفين معها حتَّى تحقق هدف إزاحـة معمّر القذّافي عَن السّلطة إِلى الأبد. جاء الصّادِق عُمر المخزومي إِلى ساحة التَّحرير ذات يوم، حاملاً صورة كبيرة لوالده بين يديه، فسألته سيدة تبين له فيما بعْد أنها إعلاميّة فِي راديو بّنْغازي، عَن صورة الشخص الّذِي يضعه على صدره ويحمله بين يديه، فقال لها: “إنّه والدي، الفنّان عُمر المخزومي، الّذِي أعدمه القذّافي يوم 7 أبريل 1977م فِي ميناء بّنْغازي فِي أوَّل حادثة إعدام علني فِي ليبَيا”.

وبعْد ذلك، طلبت السيدة أن تعقد معه حواراً إذاعياً ليحكي قصّة والده ومشهد إعدامه المرعب الّذِي أفزع كل الِلّيبيّين، ويتحدث عَن جرائم نظام القذّافي، وعَن الصدمة والمأساة الكبيرتين اللّتين عاشتهما أسرته بعْد فقدان رب العائلة. ذهب الصّادِق إِلى الإذاعة برفقة انتصار شقيقته الكبرى، وعقدت الإذاعة معهما حواراً مطولاً حظي على أعلى نسبة استماع وقتها. وبعْد التخلص مِن القذّافي، وفِي العَام 2012م، دعت مؤسسات المجتمع المدني فِي مدينة بّنْغازي، أسرة عُمر المخزومي، إِلى حفل تكريم لشخص عمر المخزومي الّذِي رحل يشكو إِلى ربه إجرام معمّر القذّافي، وظلم نظامه الّذِي أوغل في دماء شعبه، فِي ساحة ميناء بّنْغازي، موقع عملية إعدامه. وفِي الختـام ثار الشّعب الِلّيبيّ ضدَّ القذافي ونظامه القمعي المتوحش بعْد حوالي أربعة وثلاثين عاماً مِن جريمة إعدام عُمر المخزومي ظلماً، لانتزاع حريتهم وتحقيق دولة الحريّة والعدالة والرَّخاء، ولأجل تكريم الشهداء وأسرهم وإعادة الاعتبار لمَنْ ظلموا واضطهدوا وانتهكت حُقُوقهم، كذلك لتمكين النَّاس مِن التعبير عَن مطالبهم والدّفاع عَن حُقُوقهم وتفعيل مشاركتهم فِي مجمل السّياسات الّتي تؤثر فِي حياتهم وَفِى مستوى معيشتهم. وبعدما تمكن الِلّيبيّون مِن إسقاط نظام معمّر القذّافي الّذِي جعل ليبَيا مِن أكثر بلدان العالم تخلفاً وفساداً، وَأكثر دول العالم استبداداً، بادرت مؤسسات المجتمع المدني بتكريم الشهداء وأسرهم، وكان عُمر المخزومي مِن أوائل الّذِين كرموا. أُقيمَ حفل تكريم كبير لعُمـر المخزومي فِي العَام 2012م

فِي الساحة الّتي أُعدم فيه ظلماً وبهتاناً، وفِي المدينة الّتي أحبّها إِلى درجة العشق، وبحضور أسرته وعلى رأسهم نجله الصّادِق، وكان مكان الاحتفال محاطاً بصوره الجميلة وأكاليل الزهور، وألقيت بالمناسبة عدد مِن الكلمات، أشادت بمناقبه وتناولت سيرته وموقفه الوطني وسجل عطائه في مجال الفن والغنــأء. حقاً، لقد كانت ثورة السّابع عشر مِن فبراير لحظّة مفصليّة فِي تاريخ ليبَيا، ونجحت نجاحاً باهراً فِي إزاحة المستبد ورفع الوعي بأهميّة النَّضال وسط قطاعات كبيرة من الفئات الحالمة بالتغيير مثل الشباب والنساء، لأجل خلق واقـع جديد ومُسْتقبل مستقر أكثر أمناً ورخاءً وتطوراً، ثمّ اتخذت مبادرات سُجّلت لها بفخر فِي كتب التاريخ، وأحسنت البدايات، ولكنها لم تحقق النهايات المرجوة حتَّى الآن. واليوم، تواجه ليبَيا ثورة مضادة، وموجات مِن التطرف، وحالات من التشرذم والانقسام، ومؤامرات خارِجِيّة لا تقبل صياغة واقـع جديد للمنطقة، وتنتظر منّا جميعاً ﺍﻟﺘﻜﺎﺗﻒ ﻭﺍﻟﺘﻼ‌ﺣﻢ ومواجهة هذا الوضع الصعب والتغلب عليه، وتصحيح المسار ومعالجة الأخطاء واستكمال المسير نَحْو النًّصر الكامل، وأن نكون مدركين أن التّاريخ سيحاسبنا إنَّ لم نحسن النهايات كمَا أحسنا البدايات. أخيراً، رحم الله أحمَـد فؤاد فتح وفناننا القدير عُمر المخزومي.. ورحم الله المعلمين عُمر دبـّوب ومحمّد بن سعود اللذين سجلا صفحة مِن صفحات تاريخنا الناصعة البياض، واللذين ستبقى ذكراهما حيّة فِي قلوب وذاكرة النَّاس أبد الدهــر. رحم الله المخزومي وغفر له وجعل الجنّة داره ومأواه. ب

الصّادِق عُمر المخزومي، فِي حديث له مع الإعلاميّة حنان المجبري، صاحبة برنامج: «نجوم الزمن الجميل»، الّذِي يذاع على فضائيّة: «ليبَيا روحها الوطن»، وحلقة البرنامج المذكور، موجودة على اليوتيوب منذ تاريخ 12 مارس 2021م. ِ

قلم: شكري محمّد السنكي فجر يوم الخميس الموافق 9 سبتمبر 2021م • مصدر المعلومات الخاصّة بسيرة عُمر المخزومي وقصته، مِن حديث للصّادِق ابن المخزومي، فِي حديث له فِي برنامج: «نجوم الزمن الجميل»، المذاع على فضائيّة: «ليبَيا روحها الوطن»، والّذِي تقدمه الإعلاميّة حنان المجبري. وحلقة البرنامج المذكور، موجودة على اليوتيوب منذ تاريخ 12 مارس 2021م. ِ مصادر ومراجــع: 1) المؤلف، مقالة على حلقات: « الانقلابيّون والعودة إِلى زمن مشانق الاستعمار… دبـّوب وابن سعود أوَّل ضحايا»، المنشورة فِي شهر أبريل 2008م، فِي موقع «ليبَيا المُسْتقبل» الإلكتروني. 2) مركز العاصمة للدراسات السّياسيّة والمجتمعيّة، دراسة تحت عنوان: «تفكيك المشهد الِلّيبيّ (تشريح للواقع والفواعل)»، منشورة بالموقع الإلكتروني للمنتدى. 3) المؤلف، كتاب: «ضميـر وطـن.. سيرة رجال واجهوا الاستبداد وقاوموه»، الصادرة طبعته الأولى عَن مكتبة «الكـون» فِي 1442 هجري الموافق 2021م. 4) المؤلف، مقالة: «فِبْرَايـِر فِي ذكراها السَّادِسَة»، المنشورة فِي 17 فبراير 2017م، فِي موقع «ليبَيا المُسْتقبل» الإلكتروني. 5) المؤلف، مقالة: «القذّافي يعدم شنقاً المخزومي.. الفنّان عُمر المخزومي أحد ضحايا الاستبداد»، المنشورة فِي 21 مايو 2016م، فِي صفحة المؤلف الشخصيّة بالفيسبوك«Shukri El-sunki»، وموقع «ليبَيا المُسْتقبل» الإلكتروني. 6) الزغيبي، عبدالسّلام، مقالة: «شخصيّات بنغازيّة.. عُمر الصّادِق الورفلي (عُمر المخزومي) »، المنشورة فِي 26 فبراير 2013م، فِي موقع «الحوار المتدن» الإلكتروني. 7) فيسبوك «Facebook»، «الفنّان اللّيبيّ.. عمر الصادق مسعود الخازمي (عُمر المخزومي)»، المنشورة فِي 16 مارس 2016م، فِي صفحة: «أبناء ورفلـة فِي طرابلس» بالفيسبوك.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :