ليبيا.. الذاكرة المسروقة

ليبيا.. الذاكرة المسروقة

  • المهدي يوسف كاجيجي

في نهاية الخمسينات، كانت دور العرض السينمائي منتشرة في مدينة طرابلس، وكانت أكثرها شهرة “سينما النصر” التي كانت تقع في سوق الترك بالمدينة القديمة، لتخصصها في عرض الافلام المصرية. كنا على موعد معها كل يوم خميس من كل أسبوع، وهو يوم الخروج الأسبوعي من القسم الداخلي في معهد المعلمين، وكان من أهم الأفلام شهرة واطولهم عرضا، فيلم “عنتر وعبلة”. كنا نكرر المشاهدة بدون ملل، تصاحبنا دائما شهقة الإعجاب المصاحبة للعرض الاول، وخاصة في اللقطة التي يتم فيها اختطاف “عبلة” فتصرخ: النجدة.. النجدة يا عنتر. ويظهر ابن عمها الفارس الأسود المغوار “عنتر” ممتطياً فرسه، شاهراً سيفه، مطيحاً برؤوس الأعداء، محررًا لابنة عمه. عندها ترتفع حناجرنا بالتهليل وأكفنا بالتصفيق، ولا تنتهي الحكاية بنهاية العرض، بل نظل نتداول فيما بيننا التعليقات، ونتقمص شخصية “عنتر” في أحلامنا ونردد أبيات شعره:لا تَـسقِني مـاءَ الـحَياةِ بِذِلَّةٍ … بَـل فَاِسقِني بِالعِزِّ كَأسَ الحَنظَلِمـاءُ الـحَياةِ بِـذِلَّةٍ كَـجَهَنَّمٍ … وَجَـهَنَّمٌ بِـالعِزِّ أَطـيَبُ مَنزِلِ.الذاكرة المسروقةكبرنا وهرمناً ودارت بنا الأيام على رأى السيدة “أم كلثوم”، وتغيرت الدنيا حولنا ولم يبقَ لنا سوى الإبحار في الذاكرة، او التوكؤ على ما تبقي لنا من أيام، وزيارة الاطلال. لم تعد الأماكن هي التي كنا نعرفها، زحفت الشيخوخة على المدينة القديمة، التي تآكلت و ” تهدرشت “بفعل الإهمال وزحف العشوائيات، وتحولت إلى مأوى للحشرات والقوارض، والتعساء من المهاجرين الافارقة، فاختفت معالم اسواقها القديمة المبهجة وصناعاتها التقليدية، وتحولت إلى مخزن كبير للبضائع الصينية.بحثت عن سينما النصر، على اعتبار أنها واحدة من المعالم التاريخية للمدينة، التي تجاوز عمرها المائة عام. بناها الايطاليون كمسرح وصالة عرض سينمائي، كان اسمها في البداية ” البوليتياما ” وقدمت على مسرحها الكثير من العروض العالمية والعربية، اشار إليها الأستاذ نور الدين خليفة النمر في تحقيق صحفي على صفحات السقيفة الليبية، مصحوبا بصورة نادرة لحفلة بتاريخ 1 اغسطس 1914 احياها المطرب المصري الشهير الشيخ سلامة حجازي، برعاية عميد بلدية طرابلس صاحب السعادة حسونة باشا القره ما نلى. إن المدقق في الصورة سيشاهد صالة لا تختلف عن اية صالة عروض فنية في اي عاصمة أوروبية، مثل أوبرا باريس أو روما، وما يؤكد ليبية المكان إلا ملابس للحاضرين العربية.فشلت في الوصول للمبني، الذى ضاع وسط زحام من العشوائيات، وبمساعدة من الصديق العزيز المسرحي الكبير بشير المبروك، تمكنت من الوصول إلى القاعة القديمة. تغير المكان ولكنه لا يزال يحتفظ ببقايا من العز القديم، استطاع المخلصون من محبي المسرح استقطاع جزء منه وتحويله لمركز تدريب متواضع، للأجيال الشابة، على ايدي ما تبقى من جيل مخضرم، غربت شمسه، ولكنه ظل وفيا لتاريخه ووطنه. جيل من تبقي من رجال المسرح الذين وقع على عاتقهم القيام بالدفاع عن المكان، والتصدي لعملية الهدم بهدف تحويله إلى متاجر ودكاكين ومخازن.غادرت المكان حزينا مكتئباً. سوق الترك بدى مظلما، متاجره مغلقة الأبواب والقمامة تنتشر في كل مكان، خرجت مختنقا، فلفحني هواء البحر المحمل بروائح املاح اليود، تحملها نسمة هواء رطبة. عبرت ميدان الشهداء وبالرغم الظلام الذي كان يلف المكان بسبب انقطاع الكهرباء بدت طرابلس مدينة فريدة شامخة تقاوم حقبة مظلمة في زمن ردئ، يسرق فيه كل شيء حتى ذكرياتنا البسيطة.* الصورة:

سينما النصر ما بين الماضى والحاضر.


شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :