المهدي يوسف كاجيجي
في الستينات من القرن الماضي، تشكل وفد صحفي لمرافقة السيد عبدالحميد البكوش، رئيس مجلس الوزراء وقتها، رحمه الله، في رحلته لدول المغرب العربي. في تونس استقبلنا فخامة الرئيس الحبيب بورقيبة، في قصره بقرطاج. عند دخولنا قاعة الاستقبال بالقصر، لفت نظرنا الصور المعلقة لحكام تونس، ممن كان يطلق عليهم “بايات تونس” ومنهم من اتهم بالعمالة للاستعمار الفرنسي. كانت الصور معلقة بتتابع تاريخي، ينتهى بصورة الرئيس بورقيبة. كان المشهد غريبا علينا.
وفي حضرة الرئيس، طرح الأستاذ رشاد الهوني مدير تحرير جريدة الحقيقة رحمه الله، السؤال على الرئيس مستفسرًا فأطلق الرئيس ضحكته المشهورة، وأعقبها بقوله: هذا شيء طبيعي وحق من الحقوق، فهم مهما تعددت مواقفهم، جزء من تاريخ تونس، وببساطة شديدة، إذا أردت من القادمين بعدك أن يتذكروك، فعليك أن تحترم الذين سبقوك، إنه التداول السلمي على السلطة، إنه التاريخ يا بني.
العهد المباد ضحكنا واعتبرناها نكتة، من نوادر الزعيم، الذي اشتهر بتصريحاته الجريئة والغريبة أيضا. ولم يمض عامان حتى قام شاب ملازم في الجيش الليبي، بإسقاط النظام الملكي، وخرجنا نصفق للقادم المجهول، وأطلقنا اسم “العهد البائد” على التجربة السياسية التي خاضها الآباء مؤسسو دولة الاستقلال، وقدمنا الأحياء منهم، لمحاكمة غير عادلة، باسم “محكمة الشعب” وكنا نجلس في المساء حول الشاشات الصغيرة، نشاهد محاكمتهم، ونتمتع بإهانتهم، دون تقييم لتجربتهم
. المقبور بعد ما يقارب من نصف القرن، خضنا فيها تجربة شكارة الفئران، والزمن الضائع، والفرص المهدورة، تكرر المشهد في شكل مأساوي، وسقطت دولة الرجل الواحد، متعدد الوجوه، الملازم، والعقيد والأمين، والصقر الوحيد، وملك ملوك أفريقيا، وعندما حانت اللحظة، انتهى كل ذلك في مشهد مأساوي، وسقط النظام كسابقه، وأطلق عليه “المقبور”، وأغلق ملف التجربة بنجاحاتها وإخفاقاتها، بل وللأسف يقال إن كل ملفاتها ووثائقها وأسرارها بيعت في صفقة رخيصة لبلد خليجي .قبل أن نعرف ما حدث كيف ولماذا؟ وما بعدي الطوفان. وجاءت فبراير وأعاد التاريخ نفسه، وطرح شعار ” أنا وبعدي الطوفان ” ليتحول إلى ثقافة سائدة ودستور وعلم مرفوع لكل من ذاق طعم السلطة ، وجلس على كراسيها الملعونة .
ولم يقتصر ذلك على وظيفة رأس الدولة، بل امتدت لكل كراسي السلطة ، التنفيذي منها والتشريعي، من رأس الهرم إلى أصغر وظيفة، كل من جلس على كرسي التصق به حتى الموت، حتى وإن أدى ذلك إلى استدعاء الأجنبي والتحالف معه والتمترس خلفه، وضياع وطن بكامله. أيها السادة.. العالم يتشكل من حولنا، لا مكان فيه للجهلة الضعفاء، والتاريخ لم يعد يعتمد في كتابته على ذاكرة “كبار الحومة” التي عندما تشيخ يسهل تزويرها.
وبما أننا وفي العصر الرقمي وتقنياته المذهلة، فالذاكرة لا تشيخ، والتاريخ بكل حراكه ومنذ لحظة حدوثه يسجل ويبث ويشاهده كل سكان الدنيا، أينما كانوا، في نفس اللحظة على أجهزة هواتفهم المحمولة، ومن فاته شيء يقوم بإعادة استدعائه، وبواسطة السيد ” جوجل ” وأمثاله، تعاد المشاهد حية، كلحظة وقوعها. أصبح كل شيء في الطبق كما يقولون، ومن الصعب أن يعيش المرء في العصر الرقمي بعقلية العصر الحجري. أفيقوا ليرحمنا ويرحمكم الله.