سلوى في سبها، امرأة تحمل ماكينتها على كتف الزمن، وتخيط من الصبر قوت يومها
قصة صحفية : منى توكا شها
في شارع هادئ وسط أحد أحياء مدينة سبها ، يقع محل خياطة صغير، واجهته متواضعة وألوانه باهتة، لكن داخله عالم كامل من الصبر والكفاح. هناك، خلف ماكينة خياطة تقليدية، تجلس سلوى محمد، سيدة مصرية في بداية الستينيات من عمرها، تقيم في ليبيا منذ ما يزيد عن أربعين عامًا.
ما إن تدخل المحل حتى تفوح رائحة القماش والمجهود الطويل، وتعلو أصوات الخيط والإبرة، بينما تتحرك يداها بخبرة وصبر، تقص وتخيط وتُعدّل ملابس الزبائن. ترفع رأسها وتبتسم ابتسامة دافئة قائلة: “هو ده بابي المفتوح من سنين… الماكينة دي شريكتي في الحياة بعد ربنا.”

من مصر إلى سبها: بداية حياة جديدة.
ولدت سلوى في مصر، وتزوجت في سن الرابعة عشرة من عمرها برجل فلسطيني كان يعمل مدرسًا في ليبيا. تقول وهي تسترجع ذكريات البداية:”ما كنتش أعرف حاجة عن ليبيا. بس لما اتجوزت، قالولي حتعيشي في مدينة اسمها سبها. سافرت وأنا طفلة لسة، قلبي بيرتعش من الخوف. لا أهل، لا سند، ولا حتى صاحبة.”
وصلت إلى سبها في العام 1976، وهناك بدأت حكايتها مع الغربة، لكنها لم تكن غربة قاسية كما توقعتها، بل وجدت في هذه المدينة الجنوبية احتواءً إنسانيًا فاجأها، وبيئة احتضنتها حتى كبرت.
“الناس في سبها ما قصروا. كانوا طيبين، يساعدوا بعض، واحتضنوني كأني منهم. البلد دي أمان، وربنا كتب لي عيشة كريمة فيها.”
عمل زوجها مدرسًا في التعليم الحكومي لأكثر من 30 سنة، بينما كانت سلوى تربي أبناءها في المنزل، تتابع تعليمهم، وتدير شؤون الأسرة بتفانٍ. رُزقت بثلاث أبناء، جميعهم وُلدوا في سبها، وتعلموا فيها، وبعضهم أكمل دراسته الجامعية.
فقدان السند وبداية كفاح جديد.
عام 2010، توفي زوج سلوى بعد مرض مفاجئ. رحل السند، وبدأ فصل جديد من الحكاية، أكثر قسوة.

“لقيت نفسي فجأة لوحدي. ما فيش مرتب، ما فيش دعم، ما فيش ضمان. كل اللي بنيناه راح، وأنا مضطرة أبدأ من أول وجديد.”
حاولت سلوى التواصل مع الجهات المعنية للحصول على مرتب تقاعدي لزوجها، أو أي دعم اجتماعي يعينها على الحياة. لكن طلبها قوبل بالتعقيد والتجاهل.
“قالولي الورق ناقص، أو ما ينفعش، أو ما فيش بند واضح يشمل حالتي. مع إني مرات موظف خدم بلده سنين طويلة. لكن ما حصلتش على أي شيء.”
لم يكن أمامها إلا أن تتحرك بسرعة، فالإيجار مستحق، والأبناء بحاجة للطعام والدراسة، فاستأجرت محلًا صغيرًا في سبها وبدأت العمل كخياطة.
“كنت أعرف شوية خياطة، تعلمتهم منذ كنت طفلة في مصر. بس علمت نفسي أكثر، وبديت أشتغل عشان أعيش. المحل صغير وإيجاره 300 دينار، والدخل على قده، بس أحسن من مدّ الإيد.”
الابن الأكبر، ابن الأم قبل كل شيء.
في قلب المحنة، ظهر الابن الأكبر ليحمل مع أمه العبء. كان وقتها طالبًا في المرحلة الثانوية، لكنه قرر أن يترك مقاعد الدراسة ويعمل في مساعدة والدته .
“قاللي: يا أمي، أنا اللي حوقف جنبك. وفعلاً اشتغل معايا في المحل، وساعدني أربي إخواته. هو اللي خلاني أقدر أكمّل، ما نساش فضله طول عمري.”

ساعدها ابنها الأكبر في أعمال المحل، وبدأ يتحمّل مسؤوليات لم تكن تناسب سنّه. وفي كل هذا، لم تفقد سلوى عزيمتها، بل ازدادت قوة.
“كنت أخيط بالنهار، وأنظف البيت بالليل، وأتابع البنات في دراستهم. تعبت كتير، بس كان لازم أكمّل. مفيش بديل.”
شكر وامتنان رغم كل شيء
ورغم كل الصعوبات، لا تتحدث سلوى بمرارة، بل بالعكس، كلماتها كلها امتنان.
“ليبيا ما قصّرتش معايا. عشت فيها بأمان، وربيّت أولادي فيها، واشتغلت فيها بكرامتي. صحيح تعبت، بس ما كنتش مهددة ولا مكسورة. لو كنت في بلد تاني، يمكن كنت ضعت.”
تقولها بنبرة دافئة وهي تنظر إلى ماكينة خياطتها، وتضيف:
“أنا مدينة لليبيا بكل اللي عندي. صحيح معنديش إقامة، ولا جنسية، ولا مرتب، بس عندي أمان وستر، وده مش بسيط.”
طلب بسيط، لا أكثر.
رغم أن أبناءها ولدوا وتربوا في ليبيا، إلا أن سلوى لا تطالب بأي شي، ولا تطالب بمعاملة خاصة.
“أنا مش عايزة غير حاجة وحدة، مرتب الضمان بتاع جوزي. خدم بلده الثاني ليبيا، وعلّم أجيال، وده أقل حقه. مرتب صغير أعيش منه لما ما أقدرش أشتغل.”
هي اليوم لا تزال تعمل، لكن صحتها بدأت تتراجع، والنظر لم يعد كما كان، واليد ترتجف أحيانًا. ومع كل ذلك، ترفض التوقف.
“المحل ده بيتي. الماكينة دي عمري. لو تركتهم، هبقى وحيدة تمامًا. بس كمان محتاجة أرتاح شوي. مش عيب لما أطلب حقي في الضمان.”

في مدينة سبها، تحت سقف جدران المحل ورفوف من القماش، تخيط سلوى حكايات النساء المهاجرات بصمت. قصتها ليست فقط عن امرأة جاءت صغيرة وغابت عنها الدولة، بل عن قلب لم يتوقف عن الشكر، ويد لم تتوقف عن العطاء، وعين ما زالت تنظر إلى الغد بأمل، فقط لو أن باب الضمان يُفتح.