بقلم :: عائشة إبراهيم
هي ترقص فوق السطح المصقول على قدم واحدة.. أراد أن يتأكد أنها بقدم واحدة.. حاول أن يقبض على ذيل الفستان المنساب وراءها فانزلقت عنه بعيداً.. فكر أنه ليس في حاجة للتأكد من أنها بقدم واحدة، ذلك لأنه كان قد رسمها بيده.. لا.. لم يرسمها.. تذكر أنه توكّأ بسن القلم على الورقة فطبع نقطة.. أنها مجرد نقطة.
أقنع نفسه بذلك.. وهي مازالت تقفز وتنط فوق محاور الإحداثيات.. ابتعدت عن نقطة الأصل اتجهت نحو اليمين ..ارتفعت.. هبطت.. ارتفعت ثانية بدرجة أعلى.. وعادت إلى نفس المستوى.. قرأ في خطها المنكسر دقات قلبه المتسارع.. أوشك الخط المنكسر أن يتحول إلى خط أفقي رتيب… هو يخاف الرتابة.. الرتابة تعني الموت، فكر أن عليه أن يضبط معادلة الحركة فينقلها إلى الدرجة الثانية.. سوف يقبض على النقطة المتهورة، ويجبرها على التحرك البطيء.. سيجعلها تزحف .. هو يحب النقاط الزاحفات اللاتي لا يخلفن أثراً يذكر.
حاصرها في زاوية ضيقة بين مماس المنحنى والمحور الأفقي.. لم تعد تستطيع الرقص، زحفت متثاقلة ببطء شديد على حافة المنحنى المتصاعد.. القمة بعيدة وهي تئن وتلهث من التعب.. انتشى بصوت أنينها المسموع، وتسللت إليه قشعريرة خفية تهمس بشوق لذيذ.. وكلما تعثرت أكثر في مسيرها شعر بدنو لحظة الانتصار حيث ستعود إليه طائعة صاغرة.. لكنها لم تلتفت إلى الوراء بل تابعت مسيرها اللاهث… اكتشفت أن هنالك نقطة انقلاب في أعلى القمة يبدأ من خلالها المنحنى في الانحدار إلى الجانب الآخر ..تحول المنحنى إلى قوس قزح فتزحلقت عليه كطفلة مشاغبة.
أدركَ أنها ليست مجرد نقطة.. هي تجربة مشحونة في عمق الذاكرة.. شيء يومض كالنجم البعيد… كحب امرأة مستحيلة.. كلحظة الموت أوالميلاد.. ليس أصعب من القبض عليها.. كانت تتزحلق على القوس وتقهقه بسعادة كبيرة.. تحمر وجنتاها من قبلة نسيم بارد.. تتحول إلى وردة.. إلى فراشة.. إلى طائرة ورقية ذات خيطان من الذهب، فيرفرف قلبه كعصفور عاشق، يتيهان معاً.. يتوحدان.. ينتشيان.. يسقطان… لا.. بل يسقط هو.. هي تتابع الطيران خارج حدوده المرسومة.. خارج رقعته الضيقة ذات المحاور المتعامدة.
نظر إلى سطح الورقة.. وإلى المحاور التي رسمها بعناية. تذكر كم من النقاط التي كانت تسقط هنا في الشَّرَك.. تأتمر بأمره .. تدور في فلكه.. ترقص بين راحتيه….. لكن الأخيرة ليست مجرد نقطة.. تأكد من ذلك حين رآها تنقلب عليه.. تحطم قوانينه التقليدية ذات البعدين.. وتتخذ بعداً ثالثاً يتيح لها أن تسبح في الفراغ، تنطلق نحو السدم البعيدة .. مرة تمتطي غيمة.. ومرة تنسكب كالضوء.. أو كالحلم اليافع.. أو تنهمر كالمطر.
وجد نفسه يلاحقها .. يهجر حدود رقعته الضيقة ويتجه إلى الأعلى.. باغته ضوء الشمس.. هاله ارتفاع السماء واتساع الأفق المهيب.. تلصصت من داخله الأمنيات وفكر كيف سيتمكن من امتلاك بقعة في هذا الفراغ .. كيف يرسم شركاً جديداً بثلاثة أبعاد يقبض فيها على نقاطه الراقصة.. كيف يهيّء لها شرنقة كبيرة من الحرير أو خيمة من المخمل تنتصب ما بين ذراعيه والسماء ..
تركته يرسم أبعاده الثلاثة ذات الجدران المصمتة.. وانطلقت إلى فضاء لا نهائي الأبعاد… اخترقت أزمنة أخرى.. كانت تشرع جناحيها وهي تحلق بعيداً بغنج وعذوبة.. لم يستطع الولوج إلى عالمها الجديد… لاحق بنظراته آخر هالة من الضوء خلفها ذيل فستانها الطويل.