المبـروك سالم نغماشه
تعتبر الرواية الشفوية أو بما يسمى بذاكرة الصدور رافدا من روافد التاريخ المنسي ولا ينظر إليها من الناحية التوثيقية عند الكتابة في وقتنا الحاضر وأصبح الأخذ بها في التوثيق غير مجدٍ عند البعض وعدم الاهتمام بها كمرجع مهم غير ذي جدوى في البحوث والمصادر التاريخية أو من ناحية تصديقها إلا أننا إذا نظرنا إلى كل هذه المصادر المكتوبة نجد أن بدايتها في الأصل هي روايات شفوية ثم تم جمعها ونقلها بالمقابلة الشخصية بين الكاتب والرواي أو إجراء لقاء بين الشخص المتحدث (الرواي والكاتب أو المؤرخ الذي يعتمد عليه في نقل كل كبيرة وصغيرة في هذه المقابلة الشخصية سواء كانت عبر وسائل الإعلام أو لقاء عابر على الطبيعة دون أن يكون للإعلام أي حضور وأصبح فيما بعد يرجع إلى كتاباته، ومن خلال هذه الصفة التي امتهنها اكتسب شهرة المؤرخ في نقل تلك الروايات المتوارثة. والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا نحن لا نعتد بالذاكرة الشعبية في الكثير من كتاباتنا، وتجد أول سؤال يوجه لك عندما تكتب عن أي شيء له علاقة بالتاريخ (يقول لك ماهي مصادرك ) التي اعتمدت عليها، مما يعتبر هذا السؤال فيه الكثير من الإجحاف والشك، أي أن معلوماتك غير صحيحة حسنا، فإذا كانت كل المراجع التاريخية والكتب سجلت كما ذكرت سابقا بطريقة التوارث والمقابلة الشخصية ودونت في بعض الكتب والأشرطة التسجيلية في مقابلات متلفزة أو جلسات اجتماعية ، داخل البيوت أو الأماكن العامة، ومن ثم طبعت وأصبحت مرجعا معترفا به، وبدأت تطلق عليها مرجعا، التي يحتاجها القارئ في رصد وتسجيل كل أبحاثه والاستدلال بها في معظم الوثائق حتى تجد الاعتماد من الجهات التي تعرض عليها تلك البحوث، ومن هنا كان يجب علينا ألا نهمل كل ما يروى بذاكرة الصدور التي لا زال البعض يحتفظ بها ولم يكشف عنها، فقط يجب التحقق والتدقيق منها حتى تجد طريقها إلى الاعتماد عليها وعدم إهمالها مثلما في بعض دول الجوار، وسواء كانت هذه الروايات مهتمة بالجانب السياسي أو الاجتماعي أو أي حدث تتناوله تلك الحقبة التاريخية ولها علاقة بفترة زمنية محددة كما أن الذاكرة الشفوية تعتمد عل النقل المتوارث من شخص لآخر وبذلك نجد أن كل شخص يحكيها بنفس الطريقة إلا أنها تختلف في أحداثها التي روى بها كل شخص نظرا لتعاقب الفترة الزمنية التي حدثت وكذلك تعدد مصادر أماكنها وذاكرة كل شخص في السرد والحفظ لتلك الرواية، ولا نستطيع في هذه الحالة أن نعتمد عليها اعتمادا كليا لأن تناولها عدة أشخاص من منطقة أو انتقلت إلى مكان آخر وبنفس ما تناوله بعض الأشخاص في تلك المواقع التي جرت فيها تلك القصة أو الرواية وهنا تصبح الرواية مصداقيتها عالية وصحيحة لأن الذين نقلوها وأعادوا سردها أكثر من شخص وكذلك انتقلت إلى أماكن أخرى، وهناك جانب آخر ربما حيث ينقلها الوالد بالسمع عن طريق أشخاص إلا أن الفترة التي عاش فيها وحفظ فيها تلك الحادثة لم تجد طريقها إلى النشر وبذلك تكون قد ذهب منها جزء من النسيان ولم يعد يتذكر كل الأحداث المتلاحقة التي وقعت في تلك الفترة الزمنية مثلا شخص حضر والده أو عمه في فترة الخمسينات وكانت ذاكرته جيدة في تذكر المعارك الميدانية التي جرت على أرض الوطن، إلى أن أعاد نشر هذه القصص والحكايات إلى أحفاده بعد مثلا عشرين سنة من الاستقلال فطبيعي سيصبح جزء كبير في طي النسيان لكن بينما نجدها عند إنسان آخر كاملة وهذه الحالة تتعلق بمدى تقدم عمر الإنسان، كما أن مصداقية الشخص وحضوره في الأوساط الاجتماعية يجعل منه ذو مكانة اجتماعية ومشهود له بالنزاهة والصدق ومعروف من عائلة لها بصمتها في المكون الاجتماعي الذي يقع فيه ويعرفه الكثير من أبناء منطقته أو أبناء عشيرته بأنه إنسان صادق لا يعتريه الشك في كل ما يتعلق بالتاريخ أي أنه إنسان معروف عليه صدقه وبمكانته الاجتماعية وأصبح ممن يعتمد عليهم في البيئة التي يعيش فيها ومن ناحية نجد الكثير ممن لهم كلام لم يوثق إلا أن الظروف المحيطة بهم مثل بعض الإجراءات التي تتخذها الجهات المسؤولة لم يستطيعوا أن يدلوا بما لديهم نتيجة ضغوط رقابية من سلطات الاحتلال أو ذلك النظام الذي كان قائما، ولذلك منعوا من الاتصال بوسائل النشر أو التوثيق والكتابة، كما أن تصديقنا لكل ما هو مكتوب خاصة من الكتاب والمؤرخين المحليين يجعلنا نشك في ذلك والمصدر الوحيد الذي يصدقه معظم الناس هو ما كتبه المؤرخ الأجنبي أو الصحفي أو المراسل الذي يكون حاضرا على أرض الواقع حيث لا يعرف ذلك المراسل التحيز وإن حدث ذلك فهو بنسبة أقل مما نتوقع فدائما نجد أن أفضل من يكتب عن تاريخ الجهاد هم المراسلون الأجانب والمؤرخون ذوو الشهرة والمعروفين سواء ألمان أو فرنسيون أو إيطاليون وهذا ماجعلنا دائما نشكك في كتابنا بينما من يقوم بالتراجم فهذا راجع إلى مدى مقدرته في فهم كلمات تلك اللغة وتمكنه منها بحيث تكون الترجمة جيدة جدا ومن ناحية أخرى نجد الكثير لا يصدق ما يكتبه المؤرخون المحليون أو أقرانهم العرب لأن لغة التحيز أحيانا موجودة لديهم، مثلا الطاهر الزاوي كاتب ومؤرخ لكن تحامل على أشخاص دون آخرين، وتحيز لمنطقته الحرشة التي لا تزيد مساحتها عل ثلاثة كيلو مترات ونسي مناطق أخرى ومكونات اجتماعية أخرى لكن عندما نذكر محمد المرزوقي شيخ المؤرخين في تونس نجده كتب عن المعارك داخل التراب الليبي والتونسي وتكلم باستفاضة عن دور الليبيين في مشاركتهم الحرب ضد فرنسا وتكلم بإيجاز عن خليفة بن عسكر، وتكلم وكتب عن مشاركة التونسيين في المعارك ضد إيطاليا إلى جانب إخوتهم الليبيين. ومن خلال هذا السرد نجد أن إخوتنا في تونس يعتدون بمثل هذه الروايات ويثقون فيها وخير دليل عندما أتت الصحافة التونسية المتمثلة في صحيفة الشروق التونسية وجاءت إلى المناضل المرحوم عبدالله عمر الحداد ووثقت حكاياته واشتراكه في مناصرة الحركة الوطنيه إبان النزاع القائم بين بورقيبة، وغريمه السياسي الآخر صالح بن يوسف الذيْن كانا مختلفين وانضم الكثير من أنصار بن يوسف من ليبيا إلى جانبه ولجأ بن يوسف إلى طرابلس وآوته السطات الليبية آنذاك، إلا أن مصلحة الوطن مع تونس وعلاقة الوطن مع تونس إبان العهد الملكي حالت دون بقاء بن يوسف لاجئا سياسيا في البلد وخوفا من تأزم العلاقة بين ليبيا وتونس، من أجل شخص طلب من صالح بن يوسف مغادرة التراب الليبي واتجه إلى مصر فترة أواخر الخمسينات، وهذه المعلومات التاريخية في هذه السطور الأخيرة هي ضمن ما كتبه الضاوي موسى، في كتابه أضواء على الحركة اليوسفية 1955 1956م كان الحاج المرحوم عبدالله عمر الحداد يقيم بتيجي في تلك الفترة وكان أحد الداعمين لصالح بن يوسف وغيرهم من الليبيين مثل المرحوم محمود صبحي، ومحمد هلال، والمرحوم علي ضو الرقيق، والمرحوم عبدالله جموم وعبدالجليل العيساوي، ضد بورقيبة وقد أجريت لقاء معه في سنة 2015بمنزله بتيجي رحمة الله وهنا أنهي مقالي هذا. والسلام.