تقرير : منى توكا شها.
تعيش مدرسة فزان لتعليم الكبار أجواء من التحدي والإصرار، حيث تمثل نقطة ضوء للعديد من النساء اللاتي اخترن مواجهة الجهل والظروف القاسية التي فرضتها عليهن الحياة. هي ليست مجرد مؤسسة تعليمية، بل هي رمز للمقاومة والأمل في وجه واقع صعب، تواجه فيه المدرسة تحديات كبيرة بسبب نقص الدعم الرسمي والتهميش المستمر.
منذ بداية تأسيسها، أصبحت مدرسة فزان ملاذًا آمنًا للنساء من مختلف الأعمار، اللاتي لم يُكتب لهن أن يتعلمن في مراحل سابقة بسبب ظروف اجتماعية أو اقتصادية أو حتى سياسية. ومع مرور الوقت، تضاعف الإقبال على المدرسة، ليصل عدد الطالبات إلى حوالي 130، تتفاوت أعمارهن بين 10 سنوات و65 عامًا. وبين جدرانها البسيطة، ورغم الظروف الصعبة التي تواجهها من حيث غياب المقرات الثابتة، تنبض كل زاوية بقصص نسائية قوية، تبين أن الإرادة والتعلم يمكن أن يكونا سلاحًا ضد كل التحديات.

لا مقرّ… ولا إدارة!
“نحن نعمل بلا مقرّ ثابت، بلا مكتب، بلا إدارة، ولا حتى مكان لتخزين ملفاتنا”، تقول مبروكة محمد حمزة، مديرة مدرسة فزان لتعليم الكبار، بصوت يحمل من الحزم بقدر ما يحمل من الإحباط. وتضيف: “المدرسة تُدار كمدرسة احتياطية في الفترات المسائية، داخل مبانٍ تابعة لمدارس أساسية أخرى. وهذا الوضع لم يعد مقبولًا. نطالب اليوم – وبصوت عالٍ – بمقر دائم مستقل يحفظ كرامة الدارسات والمعلمات على حد سواء“.
وتتابع مبروكة: “نعاني من ضعف في بيئة التعليم، فالفصول لا تراعي الفروق العمرية بين الطالبات، ولا توجد وسائل تعليمية كافية مع محاولات المعلمات، نحن نؤدي مهمة إنسانية ووطنية، ونستحق الحد الأدنى من التقدير والدعم لمساعدة الطالبات للتحصيل العلمي في بيئة مناسبة“.

من الأمية إلى الجامعة.
القصص التي تحتضنها مدرسة فزان ليست مجرد شهادات، بل هي روايات ملهمة تتحدى السائد. عائشة عبدالسلام، طالبة تبلغ من العمر 18 عامًا، تروي رحلتها التي بدأت قبل خمس سنوات بعدما اضطرت للنزوح إلى تشاد خلال الثورة الليبية، حيث لم يكن هناك أي مدارس. “تأخرت عن التعليم ست سنوات كاملة، لكنني قررت ألا أستسلم. التحقت بمدرسة فزان، واليوم أدرس في الصف الثامن، ولن أتوقف حتى أنال الشهادة الجامعية”، تقول بفخر.
أما خديجة خيرالله، 65 عامًا، فقصتها لا تقل إلهامًا. “أنا أكبر البنات في العائلة، ووالدي – رحمه الله – كان يرفض تعليمي. بقيت محرومة من الدراسة حتى كبرت، لكنني دخلت مدرسة فزان من أجل تعلّم القراءة والكتابة، ومن أجل حفظ القرآن الكريم. واليوم أحلم بالحصول على الشهادة الإعدادية”، تقول وهي تبتسم. وتضيف: “أولادي يشجعونني ويساعدونني، وأطلب من كل ولي أمر أن يدعم بناته. اليوم ليس وقت جهل، بل وقت علم“.

الدعم النفسي… أساس لا رفاهية
سعاد صالح الكشكري، المرشدة النفسية في مدرسة فزان، تؤكد أن الاحتواء النفسي والتربوي للدارسات هو ركن أساسي من العملية التعليمية. “نحن لا نتعامل مع فتيات عاديات فقط، بل مع نساء يحملن أثقالًا من الإقصاء الاجتماعي، والمآسي الشخصية، وبعضهن أرامل أو ناجيات من تجارب قاسية. دورنا هو أن نعيد بناء الثقة في ذواتهن، وندفعهن للمثابرة“.
تقول سعاد إن لكل واحدة منهن “قصة إصرار” تستحق أن تُروى، مشيرة إلى حالات لطالبات كنّ يعانين من اضطرابات سلوكية أو نفسية وتم التعامل معها بالتوجيه والدعم حتى تحسنت أوضاعهن. وتضيف: “علينا أيضًا أن نحتوي الفتيات الصغيرات اللاتي يدرسن معنا، وأن نراعي أعمارهن، فالتعليم هنا ليس سهلًا كما يظن البعض، بل يتطلب جهدًا مضاعفًا“.

تعليم الكبار… فرصة ثانية للحياة.
مدرسة فزان ليست الوحيدة في سبها، بل هناك أربع مدارس مخصصة لتعليم الكبار في المدينة، مع وعود من مراقبة التعليم بزيادة عددها إلى ست أو سبع مدارس في المستقبل القريب. غير أن التحديات كبيرة، لا سيما ما يتعلق بالمسافات الطويلة، فبعض الدارسات يأتين من أحياء نائية كالحجارة والناصرية.
تقول مبروكة محمد حمزة: “العائق الأكبر هو بعد المسافة، لكن الرغبة في التعليم تجعل النساء يواجهن هذه الصعوبة يوميًا. نحن نرحب بأي امرأة تريد أن تفتح صفحة جديدة في حياتها، لأن تعليم الكبار لم يعد وصمة، بل هو شرف“.
وتوضح أن المدرسة لا تقتصر على محو الأمية فقط، بل تتبع منهجًا شاملاً يشمل موادًا كالثقافة العامة والتربية الإسلامية، بالإضافة إلى تعليم المراحل الدراسية من الخامس الابتدائي وحتى الثالث الإعدادي، بعد صدور قرار في 2010 بترحيل الطالبات المتأخرات ثلاث سنوات أو أكثر إلى مدارس الكبار.

المجتمع… بين الداعم والمقاوم.
تشير مبروكة إلى أن الصورة النمطية عن “عجائز محو الأمية” بدأت تتغير، لا سيما بعد انتشار التوعية عبر الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي. “اليوم يعرف الناس أن تعليم الكبار يعني استدراك ما فات، ليس فقط على المستوى الشخصي، بل من أجل تربية الأبناء والمشاركة الفاعلة في المجتمع“.
ومع ذلك، لا يزال هناك من يرفض الفكرة أو يقلل من شأنها. “نواجه أحيانًا مقاومة مجتمعية، لكن النجاحات التي نراها في تخرج الطالبات، وعودتهن لمقاعد الدراسة رغم الزواج أو العمل، تعطينا دفعة للاستمرار”، تضيف المديرة.

مطالب مشروعة.
تتلخص مطالب العاملات في مدرسة فزان في الآتي:
• مقرّ دائم ومستقل للمدرسة.
• دعم نفسي مستمر وفعّال للدارسات.
• تحسين بيئة التعليم من حيث الوسائل والأساليب.
• اعتراف رسمي أكبر بدور تعليم الكبار وأهميته.
• وسيلة نقل آمنة للدارسات القادمات من مناطق بعيدة.

التعليم حق… وليس رفاهية.
في ختام الحديث، تؤكد مبروكة محمد حمزة أن “التعليم هو أساس بناء الشخصية، وحماية الإنسان من الاستغلال والجهل. كل امرأة تتعلم، تصنع فارقًا في بيتها، وفي حيّها، وفي مستقبل أطفالها. لا نريد صدقات أو مجاملة، نريد فقط حقنا كنساء ومربيات ومواطنات ليبيات في بيئة تعليمية محترمة وآمنة“.

في مدرسة فزان، لا يُقرأ فقط الحرف والكلمة، بل تُكتب يوميًا فصول من التحدي والإرادة والإيمان بأن التغيير ممكن. فهل ستصغي الجهات المسؤولة أخيرًا لصوت النساء اللائي لم يعدن ينتظرن أحدًا كي يمنحهن حقهن في المعرفة؟














