بقلم :: ليلى المغربي
بعض المدنِ لديها قدرة هائلة على سحر زائريها، تشعر مع كل خطوة تخطوها فيهَا أن جزءاً من داخلك يتعلق بها، وآخرَ يُزهر، تجدد الأمل فيك لتدرك أن الحياة بإمكانها أن تهبك أشياء جميلة وصغيرة قد لا تكون في الحسبان، ولكنها تشعركَ بقيمة الحياة فتقدرها أكثر، هذه المدن تدخلك في سلام مع روحك، وتجعلك تغفر لنفسك خطيئة تأخرك في زيارتها , لطالما حلمت بزيارة بنغازي . لكن الظروف كانت تعاكسني، وحين تقرر موعد حفل توقيع كتاب “شمس على نوافذ مغلقة”، أحسست أن حلمي سيتحقق، كأحلام كثيرة تحققت خلال الأشهر القلائل مؤخراً .. كانت رحلتنا مقررة إلى الأبرق ومنها إلى بنغازي، وقبل يومين من السفر علمت أن مطار بنينا سيستقبل أولى رحلاته يوم الخامس عشر من الشهر الجاري، أي بعد يوم واحد من سفرنا، تمنيت في خاطري لو أنني أستطيع تأجيل السفر يوماً أخر، وفوجئت أن الخطوط غيرت مسار الرحلة قبل موعدها المحدد مسبقاً والذي يتزامن مع رحلتنا ،، لا أستطيع وصف مشاعري وأنا متجهة لبنغازي وسأهبط على أرضها وأصافحها، ربما نافسني كابتن الطائرة بكل ما يعتمل بداخلي من مشاعر تحلق في الفضاء تكاد تسبق الطائرة ، حين أقلع بالطائرة وبصوت يحمل الفرح عبر مكبر الصوت يقول: حضرات السادة المسافرين طائرة الخطوط الليبية تتجه من طرابلس نحو بنغازي مع تمنياتي برحلة ممتعة، وحين وصلنا فوق مطار بنينا يردد وصوته يحمل ذات الفرح مضاعفاً يبلغنا أننا سنبدأ الهبوط، وما هي إلا دقائق فقط ليعود صوت الكابتن قائلاً ” بدأنا الهبوط وسنحط قريبا في بنغازي وسعادة بالغة تتبدى في صوته”، أما حين لامست عجلات الطائرة أرض المطار يعود الكابتن بصوت مرتبك ومتوتر وفرح جداً “حطت الطائرة على أرض مطار بنينا، يتابع هذه الرحلة خاصة جداً بالنسبة لي فقد كنت على متن آخر رحلة غادرت بنغازي إلى طرابلس قبل ثلاث سنوات يوم 16 مايو 2014 تهدج صوته واختنقت الكلمات، غاب ثوان ثم عاد للحديث وكلماته تختلط بالبكاء وبدعوات ألا تتكرر الأحداث السابقة” علت الزغاريد مختلطة بالتصفيق والدموع .. خرجت من المطار مسرعة الخطا، أحمل شوقي أو يحملني لا أدري، نظرت لأعلى المبنى حيث كُتب مطار بنينا بنغازي، رفعت ذراعي للأعلى عانقت سماء بنغازي وصرخت بصوت عال ” بنغازي روحت”، وسألت نفسي كيف نحب مدينة قبل أن نراها؟ ولماذا ؟ .. وكيف لا أحبها وهي جزء من بلدي، ولي فيها من الأصدقاء بقدر ما لي من أصدقاء في طرابلس، الفارق الوحيد أن بعض أصدقائي البنغازينو ممن التقيتهم، كان لقائي بهم خارجها، وبعضهم اﻵخر عرفتهم على صفحات الفيس بوك، وتمنيت اللقاء بهم، وأن تكون زيارتي الأولى لبنغازي متزامنة مع الرحلة الأولى المنطلقة من طرابلس بعد انقطاع ثلاث سنوات .. وأن أصافح هذه المدينة الرائعة بيد وباليد الأخرى شمسنا .. “شمس على نوافذ مغلقة” والتي تشكلت بعض أشعتها من أبناء وبنات بنغازي، كثيرة هي الأسئلة التي تتبادر إلى ذهني، أهمها كيف وصلنا إلى حد الاحتفال بزيارة مدينة أخرى بذات البلد؟ هذا صنيعة السياسة وخلافات الساسة، لكن الثقافة هي التي استطاعت أن تجمعنا كما ذكرت صديقتي حنين بوشوشة .. و رغم قصر الزيارة، لكنني حرصت على التجول في كثير من أحيائها وشوارعها، أحسست بألفة غريبة مع المكان، ربما مرد ذلك للسحر الذي تتميز به بعض المدن والذي أشرت إليه، فالمدن تشبه ارتباط الإنسان بالإنسان، أو ربما ارتباطنا بأهلها هو السبب، هناك مدن تحبها من أول نظرة، ترتاح لها ثم توطد معرفتك بها بناءً على أول انطباع، وبعضها تحبها قبل أن تزورها، ربما لأنها تحتفظ بتاريخها وتتطور بما يتناسب مع هذا التاريخ، الانطباع الأول عن مدينة ما، ليس الذي تأخذه من اللمحة الأولى عنها، بل عندما تتوغل فيها وتعيش تفاصيلها الدقيقة، تقترب من أناسها الذين عشقوها، تتجول في أزقتها وتتابع حركة المرور فيها، ترخي السمع لتلك اللهجة الودودة التي يخاطبونك بها، تتمشى في الأحياء المفعمة بالحياة، تذهب إلى المناطق التي لا يخطر على بال الزوار ارتيادها، هذه التفاصيل هي التي تثري أي مدينة وتجعلها تستعصي على النسيان، تفاصيل المدن الصغيرة ترتبط بروح أهلها وتجعلك تعيش مزاجها ومزاجهم الداخلي .. سألني بعض الأصدقاء عما لفت انتباهي في المدينة، وكيف وجدتها بعد الحرب؟ لم أعرف بنغازي قبل الحرب لأجري مقارنة، ولم ألتفت للدمار والخراب الذي خلفته تلك الحرب، ليس للتقليل منه لا سمح الله، حتى أنني لم أرغب بالتقاط صور للمباني المدمرة، لا أستطيع تحديد سبب لذلك، ربما لأنني كنت أنظر إليها بعيون القلب، التي ترصد الجمال والبهاء فيها، شاهدتها بعيون أهلها وقلوبهم، حتى زيارتي لجامعة قار يونس والتي نالها الكثير جداً من الدمار، تشعر بمهابة المكان وصموده، رغم ما طاله من تخريب وتدمير، وقد يكون مصدر هذه المهابة استمرار العمل والدراسة فيها، أو ربما تاريخ عريق لأرواح طلاب وأساتذة تعلموا وعلموا فيها، وأرواح دافعت عنها لتبقى، هي أماكن تنطوي على ثقافة تكسب المرء علماً من حيث لا يدري .. قرأت مرة “أن المدينة العظيمة هي التي تسكن صورتها في ذاكرة المرء، هي التي تلهمه فكرة ما” وبنغازي مدينة قادرة على إلهام زائريها بالكثير من المعرفة والحب بكل صنوفه، لطالما كنت مشدودة إلى المدن التي أدخلها أول مرة لأخرج منها بذاكرة ممتلئة بالتفاصيل والذكريات، أدخلها كمن يدخل ذاكرة غيره، أنظر إلى التاريخ فيها، مأخوذة بصمتها العلني، وبأحزان مرت هــا هنا، الترحيب والحفاوة البالغة الذين وجدناهما في استقبالنا، من الأصدقاء والمعارف وحتى ممن لم نعرفهم أعادتني لسؤالي كيف لا أحبها قبل أن أراها؟ ربما نكتشف يوماً أن المدينة التي نحب هي تلك التي لم نعش فيها، ونتوق لزيارتها دوماً، شعرت أن القدر كان منصفاً معي وأهداني الكثير دفعة واحدة.