- محمد عمر أحمد بن اجديرية / رئيس تجمع ليبيا الأمل
عندما تنهار مؤسسات الدولة -بصرف النظر عن السبب- دون وجود بديل مؤسسي جاهز ومُعد، لتلافي مرحلة الفراغ الدستوري، تمر الدولة عادة بمرحلة من الفوضى، تطول وتقصر مدتها حسب عدة عوامل، يتصدرها وعي الناس، ودرجة التحضر، ومدى قوة وفاعلية مؤسسات المجتمع المدني الرديفة، فضلا عن أهمية الموقع الجيوسياسي للدولة، وفعالية النخبة الثقافية، وسطوة وحضور التنظيمات الإجتماعية كالقبيلة والطائفة والعشيرة وما في حكمها.وخلال مرحلة الفوضى، يتم الإحتكام إلى السلاح، ويحاول كل فريق انتزاع حقه بيده عبر القوة، مما يفضي إلى فوضى أمنية وإنتشار السلاح، وإحياء الثارات القديمة، وإضفاء القداسة على الحروب البينية، الأمر الذي يغذي الإقتتال ويضفي الشرعية على كل الإنتهاكات والممارسات القتالية، وتنتشر ثقافة الكراهية والأحقاد والتشفي والفجور في الخصومة، وتتم شيطنة الخصوم، وإلصاق تهم الخيانة والعمالة، والكفر والردة والخروج عن الملة، بجميع الأطراف والخصوم!وتتسع دائرة الإقتتال عندما تستقوى أطراف الصراع بقوى أجنبية، وتنشد دعمها وحمايتها، وكلما زاد حجم التدخل الأجنبي في دائرة الصراع، يتسع نطاقه وتزداد حدته، وبمرور الوقت يتحول الأمر تدريجيا من يد الفاعلين المحليين (الليبيين) إلى أن يخرج أمر الأزمة برمته من يد الفاعلين المحليين، ويغدو تحت رحمة القوى الأجنبية، وعند هذه المرحلة، يتم تدويل الصراع المحلي، ويصبح جزء من لعبة الأمم.في هذه المرحلة تبوء جميع المساعي الحميدة التي يقوم بها المجتمع الدولي (المنظمات الدولية والدول) ودول الجوار والمنظمات الإقليمية والشخصيات العامة والمصلحين الإجتماعيين بالفشل، وتذهب دعوات الصلح والإصلاح أدراج الرياح، جراء تعنت الفرقاء المحليين، الذين يصور لهم وهم القوة أن بإمكانهم تحقيق نصر سريع، يحسم الأمر لصالحهم.بعض الشعوب التي مرت بحروب أهلية، تمكنت من الخروج منها بطريقة ناجحة وآمنة هي التي تضافرت لها عوامل موضوعية، قادت إلى هبة شعبية عارمة أطاحت في طريقها واقتلعت كافة متصدري المشهد العام دون إستثناء، وأفرزت طبقة سياسية جديدة ذات توجهات وطنية، عملت بالطرق المهنية المتعارف عليها في معالجة تداعيات الحروب الأهلية، أما الشعوب التي تركت الأمر لمتصدري المشهد العام، وفضلت السلبية والنأي بالنفس، وعدم الانخراط الإيجابي في ساحة التأثير، تماما كما يفعل الشعب الليبي خلال أزمته الراهنة، فإن صراع الإرادات الدولية المتدخلة هي من تحدد مصير ومآلات الأزمة، وفي الغالب لا تتوقف الحروب والإقتتال إلا في حالتين، هما:الأولي: الإنهاك دون حسم عسكري واضح الملامح: عندما يظل الوضع الميداني على حاله لسنوات دون تغيير في ميزان القوى على الأرض، وعندما تستنزف الموارد المحلية، ويصل الفرقاء إلى حالة الإنهاك ، تجعلهم يرضون بأي شكل من أشكال التسوية والصلح تفضي إلى تقاسم السلطة بينهم.الثاني: الخطر على السلم والأمن الدوليين: عندما تصبح الدول التي تمر بحرب أهلية، خطر على السلم والأمن الدوليين، ساعتها يتدخل المجتمع الدولي، وفق أساليب القوة الخشنة لجر الفرقاء عنوة إلى طاولة المفاوضات.في الحالة الليبية، لا الشعب ساهم في إيجاد الحل عبر حراك عام، يرفض كافة متصدري المشهد، ويقتلعهم دون هوادة، ويعمل على تغيير الطبقة السياسية بالكامل، فمعظم الليبيين ركنوا إلى السلبية والابتعاد عن ساحة التأثير الإيجابي بفعالية. والمجتمع الدولي لم يتدخل عبر استخدام القوة الخشنة لإجبار الفرقاء على الجلوس على طاولة المفاوضات، لأنه لازال يرى أن خطر الوضع الليبي على السلم والأمن الدوليين، لا زال في مراحله الدنيا، عليه فإن تسارع مسارات التسوية الحالية، بالأساس هي جراء الإنهاك دون حسم عسكري واضح الملامح، وقناعة الخصوم المتحاربين باستحالة الحسم العسكري، ورضاهم بتقاسم السلطة فيما بينهم، الأمر الذي يعني أن ليبيا في طريقها إلى تسوية سياسية تصالحية بين الفرقاء والخصوم الليبيين، لكنه لا يعني مطلقا نهاية او خروج ناجح وآمن من تبعات الأزمة الليبية الراهنة، بل إن أي تسوية بهذا الشكل تحمل في طياتها عوامل تجدد الأزمة من جديد، فكلمة السر أولا وأخيرا تكمن في الإرادة الشعبية، التي غيبت نفسها حتى اللحظة وتركت الأمر برمته لمتصدري المشهد الليبي العام.