محمد الزروق
تركها الشباب وشغفوا بفتاة مصرية مسلمة أقامت في البيت الملاصق لبيتنا.. كانوا يضايقونها باستمرار.. ولأنها كانت دائمة الزيارة لنا فإنني لاحظت أنهم بدؤوا في تحسين علاقتهم بي.. وكانوا يسألونني عنها لكنني لم أعد صغيراً.. واجهت الميكانيكي الذي اشتكت منه أكثر من مرة بقولي:
ماذا تريد منها؟
أجابني: أريد أن أتزوجها..
فسألته: هل تتزوج فتاة في الجامعة وأنت لم تنجح من سنة سادسة..
رأيت الغضب على أوداج الميكانيكي.. ارتفعت يده الغليظة.. خفت أن يصفعني.. تراجعت فقال:
– ما الذي تصنعه امرأة بالشهادة؟ ستمسح بها الصحون والطناجر..
لقد بدأ الشعر يغزو أعلى شفتي.. أشعرني ذلك بأن تلك الجارة الطيبة المسكينة التي تكبرني ببضع سنوات تحتاج إلى رجل يدافع عنها.. هذا ما أنبأني به مصطلح لم أكن أعرفه اسمه الشهامة..
في أحد الأيام كنت عائداً من المدرسة ونادتني كالمستغيثة.. نظرت خلفي فوجدتها تسير وخلفها قوم لا أعرفهم.. خففت من سيري فلحقت بي وسرنا معاً.. كأخ صغير يصحب أخته.. لكن أذى أولئك القوم لم يتوقف.. التفت نحوهم ولعنتهم بما أحفظ من كلمات السباب المؤدب حتى لا أخسر ثقتها.. وأخذوا يقتربون ويضحكون.. لكنهم افرنقعوا فجأة تحت وابل من الحجارة أتى من الجانب الآخر للطريق.. كان ابن عمي الكبير قد وصل في الوقت المناسب بسيارته وركنها على جانب الطريق وبدأ في إرسال حجارة إليهم.. فر المهاجمون وتنفست الصعداء.. لكن ابن عمي أصر أن يوصلنا.. نظرت إلي بعينيها الصينيتين وقالت:
– ما يصيرش أركب مع غريب.. أمشي معايا.. قربنا نوصل..
ووصلنا إلى البيت..
بعدها بأيام قابلني ابن عمي وسألني عنها.. قلت إنها جارتي.. سألني إن كنت على علاقة معها.. قلت له: لا تتكلم عنها هكذا..
ضحك وانصرف وهو يردد: لا.. متقاوية الحكاية..
عجبت من قوله.. إنها أكبر مني.. وهي وحيدة ليس لها إخوة.. وأبوها رجل مسن يعمل بعيداً عن المدينة.. ألا يعرف هؤلاء القوم شيئاً اسمه شهامة؟
وجاء اليوم الذي تغادر فيه الفتاة مع أهلها عائدة إلى أرض الكنانة.. وعلم الميكانيكي بذلك فسارع إليها واعتذر بكل ما أوتي من كلمات ابن البلد.. وقال لها: إن قصده لم يكن إلا شريفاً.. وإنها (ست) محترمة..
هكذا أخبرتنا وهي تودعنا والغصة تملأ حلقها والدموع في عينيها.. وقالت: لم يكن الميكانيكي البسيط وحده هو من ضايقني.. كثير من الشباب ومنهم زملاء لي في الجامعة فعلوا.. لكنه كان أشجع منهم جميعا باعتذاره لي..
أخبرني كلامها أن تكن نوعا من الود له.. وأن هذا الود لا يعترف بالعلم ولا بالشهادات.. كنت أستمع إليها وأنا جالس في الصالون.. يومها كنت ابن خمس عشرة سنة.. عندما همت بالخروج وقفت أمام الباب.. مدت يدها لتصافحني.. قالت لي: مع السلامة يا أخويا..
عندما غادرت.. كنت قد بدأت أتذوق طعم الملح في حلقي.. ووجدتني أبكي.. لقد رحلت.. لن يفهم أي من البشر لماذا بكيت…. لربما نسج لي خيالي أنها في يوم من الأيام ستتزوج من هذا البيت وأنني سأحقد على زوجها الذي أتى ليأخذها منا.. وأنها ستأتي بعريسها إلي ليسلم علي وتطلب مني أن أحبه لأنها تحبه.. وتطلب منه أن يحبني لأنها تحبني أيضاً.. كان حلما صغيراً لم يتحقق برحيلها.. لن يفهمنا إلا من كانت له جارة وحيدة ليس لها أخ قرر أن يكون أخاها الشهم..