بقلم :: د :: عابد الفيتوري
يبدو أن ظهر اليوم حارا مثل الأمس ، لكن في هذا الشهر وقبل 50 عاما ، كنت في الخامسة عشر من العمر ،وأعيش في مدينة سبها ، وهي مدينة صغيرة في صحراء جنوب ليبيا . أخبرني ابن عم لي ، من كبار السن ، عن
تقارير راديو صوت العرب من القاهرة التي تتحدث عن الوضع المرير الذي يواجهه الجيش المصري .. وقال ” علينا ان نفعل شيئا ” .
لم أكن أعرف تماما شيء عن ما سيعرف لاحقا باسم ” حرب الأيام الستة ” ، ولكني علمت أن ما يحدث كان سيئا للغاية بالنسبة لنا كعرب ومسلمين . كان كل من حولي مراهقين وقد استوعبوا المزاج المتوتر ، وباتوا يتطلعون إلى تنفيس غضبهم على اليهود .
انضممت مثلهم الى حشد شعبي خرج في تظاهرة توجهت نحو مبنى قريب منا علىالطراز الغربي ملحق ببار للمشروبات الروحية ،. كان الوقت مبكر من بعد ظهر ذلك اليوم ، والمكان لم يفتح ابوابه بعد . فيما قام عدد قليل من الأولاد الأكبر سنا بكسر الباب ، واقتحم الحشد ردهات المبنى ، وقاموا بتهشيم زجاجات الخمر وإلقائها على قارعة الطريق .. وسط هتافات .. ” الموت لليهود! ” ” ليرمى اليهود في البحر! “
الحقيقة هي أنني لم أكن في الواقع قد سبق لي لقاء اي يهودي . لقد نشأت في قرية بدوية صغيرة تتكون من
20 عائلة ، وهي عبارة عن مجموعة من أكواخ الطين ذات أسطح من زرائب النخيل لم تكن تبدو مختلفة عن واقعها قبل 2000 سنة . وكانت الرعاية الصحية بدائية لدرجة أنه عندما كنت صبيا ، فقدت اسرتي ثلاثة أطفال من اشقائي بسبب المرض .
كان الإسلام السني النهج الوحيد للحياة التي عرفتها . وكانت مدرستي هي المسجد ، حيث علمنا إمامنا القراءة والكتابة عن طريق حفر آيات من القرآن الكريم على ظهر اللوح . بعد ذلك ، كان تعليمنا أكثر علمانية ، اذهب الى المسجد وبالكاد كنت متدين . ولم تكن امامي ابدا أي بدائل أو طرق للتساؤل عن الحياة التي اعتدناها .
كتبنا المدرسية لم تذكر إسرائيل ، واستخدام الناس لكلمة يهودي كان بمثابة الاهانة .. فقد ناصب اليهود النبي محمد ، لذلك هم مدانين في اعتبارنا . وكان اليهود الوحيدون الذين رأيتهم فقط عبر الأفلام المصرية ، التي قدمتهم لنا في صور لشخصيات وحشية
لقد عرفت العرب الفلسطينيين . وفي مدرستي الابتدائية كان من بين معلمينا استاذ فلسطيني . ولكونه فلسطيني حضى بترحيب حار بسخاء من الناس .
بعد اتمام المرحلة الثانوية ، التحقت بجامعة طرابلس ، لم تكن البيئة الفكرية هناك نشطة سياسيا ، ولا ملتزمة دينيا . خلال السنة الأولى من حياتي هناك ، وصلني خبر مأساوي يفيد بوفاة والدتي . افرغت حزني في التركيز على دراستي ، وكسب مكان في برنامج الهندسة الكيميائية على أمل ان اجد مكانا بمجال صناعة النفط المزدهرة في البلاد ، وبالفعل تمكنت من الفوز بمنحة دراسية للدراسة في الخارج في واحدة من البرامج الأعلى مرتبة في مجال عملي ، في جامعة ويسكونسن ، ماديسون . تركت ورائي والدي وشقيقي الأصغر ، وحزمت حقائبي في اول رحلة لي خارج ليبيا.
في ماديسون ، اكتشفت الحرم الجامعي الذي يعج بالطلاب من مختلف انحاء العالم – الإيرانيين ، النيجيريين ، الأوروبيين ، الآسيويين – . وفي خضم التفاعل الفكري النشط منتصف السبعينات ، أعربت كل مجموعة بحرية وصراحة عن هويتها السياسية والثقافية .
فعلت ذلك مثلهم أيضا : وعلى جدارية مكتب يشاركني اياه اثنان من طلبة الدراسات العليا ، علقت ملصق كبير لزعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات ، يرتدي كوفيه مناضل يمتشق بندقية شبه آلية.
كان ذلك عام 1974 ، اي بعد عامين فقط من مقتل الرياضيين والمدربين الإسرائيليين في دورة الألعاب الأوليمبية في ميونيخ ، وفي نفس العام الذي وقعت فيه المجزرة الإرهابية في بلدة معالوت الإسرائيلية . نصف أعضاء هيئة التدريس في القسم وربما ربع طلابها كانوا يهود ، ومع ذلك لم ينتقد اي منهم اختياري للديكور ، او ان يعتبر احدهم انه يسيء له . ومما لا شك فيه أن العديد من الزملاء كانوا يتفاعلون بتوجيه مني .
فيما بعد ، ولأول مرة ، بدأت التعرف على الشعب اليهودي من خلال اللقاءات مع اعضاء الاتحاد الطلابي وزملاء الفصول الدراسية . وكان اثنان من أساتذة القسم يهود . قضيت وقتا معهم في حوارات حول الفلسفة اليهودية ، والدين اليهودي ، والسياسة والحياة . لقد صدمت كيف كانوا حقا اناس رائعين . لقد تحدوا كل تلك الصورة النمطية التي كنت قد تشربتها في بواكير النشأة بليبيا .
كان التباين ملفت للنظر لدرجة أنني لم اعيد النظر فقط في الافكار المسبقة التي احملها عن اليهود ، ولكنني بدأت أيضا في اعادة النظر تدريجيا بكل جانب من جوانب حياتي . ليتبين لي عمق النظرة السوداوية التي احملها منذ نشأتي عن اخرون لم يسبق لي ان جالستهم في الواقع .
وكلما كان لدي المزيد من التجارب مع اليهود ، كلما شعرت بها أكثر . حتى أنني بدأت التفكير في أنني أريد أن اتزوج من يهودية ، رغم أنني في ذلك الوقت لم يكن لدي انسانة بعينها في الاعتبار . وما علق في نفسي ، لعل ذلك من شأنه أن يساعدني على تطهير نفسي من عقلية الكراهية من تربيت عليها .
بعد ثلاث سنوات في ماديسون ، انتقلت إلى أوسك . وبعد بضعة أشهر من وصولي إلى لوس أنجلوس ، واثناء ممارستي لعبة التنس في فندق أمباسادور ، جرى تبادل حديث بيني وامرأة شابة جذابة تدعى باربرا ، حدثها عن بلدي ، واقترحت أن نتواصل . وقالت : ” أريد فقط أن اعرف ، أنا يهودية “.
تبادلنا أرقام الهاتف ، وبعد أسبوع ، اتصلت بها . استغرق الأمر بضعة أسابيع قبل أن نتواصل مرة أخرى ، لقاء للعب التنس وتناول العشاء بمطعم مكسيكي . لم يمض وقت طويل بعد ذلك ، وكنت قد خرجت من المدينة لأخذ قسط من الراحة ومن ارق الدروس .. عدت لأعثر على ملاحظة من باربرا تقول لي : أنها تفتقدني في غيابي .
قبل فترة طويلة ، دعتني للقاء والديها . كان والد باربرا يعيش في إسرائيل ، ويعمل كضابط في حرب الاستقلال . وكان أحد اشقائها إسرائيليا يعمل ضمن قوات الدفاع الإسرائيلية .
أنا متأكد من أنهم عندما علموا بمواعدتها لشخص ليبي اسمه عبد الحفيظ ( الاسم الذي كنت قد نشأت معه ولا زالت استخدمه ) ، اعتقدوا جازمين بأن باربرا قد فقدت عقلها.
ومع ذلك ، صرنا اكثر قربا . وبعد بضعة أشهر ، انتقلنا معا إلى شقة والديها المملوكة في كورياتون . في البداية ، سادت اجواء تستدعي الموائمة ، ولكن سرعان ما أصبحت حياتنا متداخلة . ساعدتني باربرا بمحبة في انجاز اطروحتي للدكتوراه .. وكانت خير معين غمرتني برعاية لم اعهدها في طفولتي . ورحبت بوجودي وسط حياة عائلتها على الرغم من خلفياتنا المتناقضة ، وقبل والداها علاقتنا بمودة . عائلة باربرا لم تكن ملتزمة دينيا ، وبشكل خاص تكتفي بالاحتفاء بعيد الفصح .
في عام 1980 ، تزوجنا في منزل فيرفاكس . في تلك المرحلة ، لم أكن أعتبر نفسي مسلما ، بل باحثا روحيا . وسويا مع باربرا اقمنا حفل زفافنا في اجواء تعج بعناصر مخلوطة من اليهودية ، وبعض اللمسات الشخصية الخاصة بنا.
استقرت حياتنا معا ، وكانت مشاركاتنا بالاحتفالات اليهودية محدودة : عشاء السبت ، وتبادل هدية حانوكا مع والديها .. فيما واصلنا بحثنا الروحي ، والانضمام في بعض الأحيان لزميل في كنيسة سادليباك ريك وارن في بحيرة فوريست.
حريص على تكوين اسرة ، ونحن ناضل مع العقم لسنوات عديدة . وقمنا بتبني طفل في وقت ما ، وفي عام 1991، ولدت ابنتنا ، جيسيكا ، وبعد عامين ، ولد ابننا جيسون .
لم يمض وقت طويل بعد ذلك ، توفي والدي . لم نتحدث إلا قليلا منذ زيارتي الأخيرة لليبيا في عام 1979 . ولم أشاركه سوى القليل عن حياتي الجديدة ، اذ من المستحيل بالنسبة له أن يفهم التعددية والانفتاح ، وان يجد فيه ما يعتز به.
بالتأكيد كان لا يمكن أن يتصور الخطوة التالية في رحلتي الروحية. عندما بلغ ابننا جيسون عمر 12 . واختار تعلم اللغة العبرية وبدء بعض الدراسات الدينية الأولية.
بدأ أيضا دراسة اليهودية والتوراة مع حاخام تشباد في شول ، ليس بعيدا عن والدي باربارا. تعلم ببطء الصلاة اليهودية والعادات ، وكلما استوعب اكثر ، كلما شعرت بأنني اقرب لليهودية.
في اليوم الذي أصبح مؤهلا ، وقفت يغمرني الفخر بابني ، ولا أستطيع أن أفهم بالكاد فيض العواطف ، ولا أستطع شرح ذلك تماما .. نشوى ذلك اليوم ، بعث في نفسي البدء في التفكير فيما بعد الوفاة على طريقة بلدي . لقد ألمني أن أدرك أنه بما أنني لم أكن يهودا ، لن ادفن في ذات المقبرة اليهودية بجانب زوجتي الحبيبة.
لم يمض وقت طويل ، قلت لزوجتي أنني أرغب في التحول إلى اليهودية . أحد الحاخامات الذي عرفناه ارشدنا إلى برنامج تقدمه الجامعة اليهودية الأمريكية ، التحقنا به – بربارا وانا.
شعرنا خلال 18 شهرا في صف الدراسة اشبه بشهر العسل الثاني : ففي اثناء درستنا للتاريخ اليهودي ، والتوراة والطقوس اليهودية ، شعرت بأنني أقرب الى باربرا من أي وقت مضى ، وقد وقعت في حب الديانة اليهودية.
عندما التقيت مع الحاخام الراعي ، بيري نيتر بمعبد بيث آم ، سأل سؤال واحد فقط : ” لماذا تريد أن تكون يهودا ؟ ” داهمتني عبره مشبعة بالعاطفة ، لم أستطع أن أتكلم . بكيت ببساطة .
“حسنا ” ، ابتسم وقال ” أنت تعبر “.
حدث شيء آخر : كنت كلما تعلمت المزيد عن اليهودية ، رأيت أوجه الشبه مع عوائد اهلي وطفولتي في ليبيا . تذكرت كيف في قرية طفولتي ، الأسر تهوى كتابة آيات من القرآن الكريم على أبوابها تحفها اغصان وسعف النخيل . كما ان الكلمات التي تعلمتها من الكتاب المقدس بالعبرية تهمس بأذني صدى مصطلحات عامية فريدة من نوعها في بلدتي .
في سياق التحقق ، علمت أن اليهود عاشوا لآلاف السنين في ليبيا ، بما في ذلك في منطقتي فزان الأم .. على الرغم من أن معظمهم تركوا ليبيا عام 1948 ، وما بقي منهم فروا بعد حرب الأيام الستة . داهمني شعور قوي يستشرف حقيقة أنني لم أكتشف الكثير من الإيمان الجديد ، بقدر ما كشف عن جزء مخفي في داخلي لزمن طويل ، وربما بعض من أسلافي كانوا يهود.
في الصباح عندما ذهبت إلى بيت الدين – المحكمة الحاخامية – لإنهاء تحولي ، شعرت بالفرح جنبا إلى جنب مع الصفاء الذي كان قد فاجئني بعد عقود .. شعرت أنني أعود إلى حيث كنت انتمي .
انضمت عائلتنا الى معبد بيت آم ، شعرت بالطمأنينة على نحو متزايد في المنزل ، وحضور بانتظام يوم السبت لمشاركة العشاء الأسبوعي .. وفي دراستي للتوراة .. وجدت صدى معين لي في حكمة الحاخام أكيفا : ” كل شيء متوقع ، ولكن يجب إعطاء حرية الاختيار ”
هذا المبدأ الأساسي – هو الذي يمكننا من أن نحتضن الله ، ولكن علينا ان نقرر مصيرنا ، وثمة الكثير المغني مما أعتز به عن أمريكا واليهودية . لقد نشأت مثل الكثير من الناس في المجتمعات المغلقة ، ومعرفة نهج واحد من الحياة ، وسط منظومة وحيدة المعتقد ، وتشربت أن احتقر أي شيء خارج هذا المجال .
أفضل التوجيه للتغلب على هذا النوع من الصراع الداخلي والخارجي ، الى آخر نصيحة من بيركي أفوت : ” من الحكمة .. على الشخص ان يتعلم من جميع الناس “.
جاب دور التعلم الخاص بي دورة كاملة في نوفمبر 2012 ، عندما سافرنا – باربرا وأنا – إلى إسرائيل . هبطنا في وقت متأخر من بعد الظهر ، نزلنا فندقنا في تل أبيب ، أرادت باربرا أن تستريح ، لكنني شعرت بالحيوية ، لذلك أخذت نزهة . تجولت عبر شوارع تل أبيب ، ويافا ، حتى منتصف الليل ، نالني العجب بالتنوع .. رأيت الناس صغارا وكبارا ، من خلفيات عرقية كثيرة . لقد دهشت من المشاهد والروائح .. وطبيعة التعايش والحياة المدينة .. وبتمعن الوجوه التي مررت بها في الشارع ، لم أكن أستطيع إلا أن أفكر في شبابي ، وفي الكراهية لإسرائيل واليهود التي أكلت لبي . وطوال سفري عبر البلاد – القدس ، صفد ، الجولان ، رحوفوت – دخلت إسرائيل مجرى الدم . وشعرت بأنني في منزلي .
لقد عززت الرحلة من اتصالي بإسرائيل واليهود . ففي كنيس صباح يوم السبت ، بدأت اهم إلى جزء من الخدمة التي لم أكن أفكر بها مسبقا : الصلاة لدولة إسرائيل.
الآن أقول ذلك كل أسبوع بنية صافية : ” يبارك الله الأرض بالسلام ، ويغدق على سكانها الفرح الدائم “.
في بعض الأحيان ، وأنا أقول تلك الكلمات ، وأتذكر بلدي عندما كنت في عمر 15 عاما ، في ذلك الطقس الحار بعد الظهيرة .. شهر يونيو في شوارع سبها. أقول صلاة إضافية امتنانا الى الله الذي حملني في هذه الرحلة الرائعة .
إ . د . الخضيري .. مستثمر عقاري ومطور يعيش في غرب لوس انجليس مع زوجته وابنته وابنه. يكتب مذكرات عن رحلته من طفولته الليبية إلى حياته كيهودي أمريكي نشط وملتزم .
: سيرة حياة الدكتور الخضيري .. تستدعي التأمل ، وتحيل في الان عينه الى التساؤل عن ابعاد وحقيقة ما اوردته صحيفة ” ساسه بوست ” .. تحت عنوان : ” يهود ليبيا .. مبرر إسرائيل للتطبيع مع ليبيا ” .. وعن تصريح رئيس اتحاد يهود ليبيا في إسرائيل ، ريفائيل لوزون : ” جميع الفصائل في ليبيا تريد بناء علاقات مع إسرائيل ، على الرغم من أنّ الدولة تعاني الانقسام في الوقت الراهن ” .. وتصريح وزير الإعلام الإسرائيلي ” أيوب قرا ” : ” حان الوقت ليكون ليهود ليبيا الحق في المشاركة في بناء بلدهم ليبيا ، والحضور في المشهد السياسي .. وهناك اتصالات مستمرة لقيادات يهودية وإسرائيلية مع جهات ليبية مسؤولة من أجل إيجاد سبل ترقية العلاقات .. ، وهناك رغبة لتوطيد العلاقات والتعامل بين الجانبين “. . هل حان الوقت .. وصار التطبيع مع اسرائيل اقصر الطرق لنيل الشرعية .؟