من رواية شطّ الأرواح

من رواية شطّ الأرواح

آمنة الرميلي

في قاع القاع من الدائرة الثقيلة التي أسقط فيها يظهر وجه خير الدين المنسي، هل دعوته؟ هل ذكرته؟ هل استنجدت به؟ وجهه هنا، قريب، قريب، وعيناه ساكنتان باسمتان، تمسحان كثيرا من قلقي وتمنحانني دفقة من القدرة على الاحتمال والصبر اللّذيذ، توسّعان من مساحة الضّلوع وترفعان صخرة الضيق المسلّطة على قلبي..

حين سأغادر هذه المحميّة، هذه الضّيعة تعجّ بالأرواح الضّائعة وسط وعود البحر والرياح، سأبادر بوضع رأسي على صدر خير الدين المنسي، سأهرب إليه من بقايا الأصوات والحكايات المتصدّعة على جدران رأسي وقلبي، بحثا عن نسيان ما رأيت وما سمعت؟ نشيج فاطوماتا، لعنات سناء التونسيّة، صرخات “رَهَف” ويدها الصغيرة تشير إلى ما بين فخذيها وهي تستلقي على ظهرها وتضرب الهواء بقدميها الصغيرتين؟ تبعد بهما أشباح مغتصبيها، عين “نجود” المشرومة بسكّين المجاهدين.. “الله أكبر! وهفا على رقبة زوجي! الله أكبر! وعبر السكّين حاجبي ورمشي وخدّي.. اركعي قال.. اركعي أيّتها الزّانية.. سمعت شقشقة حزامه وصوت سرواله يقع على الأرض من خلفي وأنا راكعة تماما، رأسي مغروس في الأرض وجذعي مرفوع في الهواء”..

حين سأترك هذه المحميّة خلفي وأنا أعبر بابها الكبير نحو الممشى المحاط بصفّيْالنخيل الذي يضطرب جريده بفعل حركة الريح، حين سأعبر بوّابتها النهائيّة والمانع ينطّ أمامي خفيفا سريعا مستقيما كالرّمح، سأكون مكسورة كقطعة زجاج، ينغزني الألم من كلّ ناحية. كلّ عضلاتي مشدودة معطّلة ودماغي يترجْرج كبيضة فاسدة.

سأبذل جهدا خرافيّا حتّى أسيطر على أفكاري وحركاتي وأقدر على المشي ومجاراة خطوات المانع أمامي حتّى لا يتوه في الظلمة أمامي. قلبي ينزّ بموادّ حارقة تجعل تنفّسي صعبا ولساني أجدب لا ينبت فيه شيء، أرضا جرداء. تحرن أفكاري كبغل الحكايات القديمة، أعجز تماما عن النطق، ماذا يمكن أن أقول بعد ما قالوه؟ أيّ كلمة سيكون لها معنى بعد كلماتهم؟ صرخاتهم المجروحة؟.. “احكي عنّي! احكي عنّي! ظلّي احكي، لا تتوقّفي عن الحكي!”، تتردّد صرخات نجُود في قحط دماغي، تشتعل عينها في ذاكرتي، يمتدّ جرحها الغائر من فوق حاجبها حتّى نهاية وجهها.. “احكي عنّي! لا تتوقّفي عن الحكي!”.. يطنّ صوتها ملء سمعي، ولساني معطّل وحلقي قطعة حطب يابس.

وهذا المانع يُولج خطوه السّريع في المسلك المظلم وأنا من ورائه أخبّ في جلبابي، وحجابي منحلّ لا يكاد يغطّي نصف شعري. أهمّ أن أطلب من المانع أن يتوقّف قليلا لأنّ نفَسي يضيق ودقّات قلبي تتسارع وصدري ينطبق فلا أقدر على تحريك لساني. أرمي بالحجاب على الأرض دون التفاتة، أفكّ أزرار الجلباب وأنزعه عنّي دفعة واحدة، أتخلّص منه بحركات عصبيّة من يديّ تستنزف طاقتي أكثر.. تشقّ صدري روائح البحر وتصلني رجرجة الموج، أترك المانع يواصل سيره وأسرع ناحية البحر. أجري بضع خطوات قبل أن تغوص قدماي في طراوة الرمل، أنزع فردتيْ حذائي بنترةٍ عنيفة من قدميّ، أمشي على الرمل المبلّل والبحر يحتويني. أسقط على ركبتيّ وسط ماء الشاطئ وأنخرط في موجة من البكاء العنيف. لا يخفّف البكاء الضغط على صدري فأصرخ ملء رئتيّ، أفتح فمي وأترك الصرخات تصعد من أقاصي الضّلوع، أتفجّر بصراخ وحشيّ لا أدري من أين يأتي، أصرخ بلا توقّف، بلا تعب، بلا أخذ نفَس، حتّى ينقطع النفس.

أسمعه يهمس باسمي:

ــ باهية!

أنهار وسط الماء، تدوّي في أذنيّ حركة المياه المتموّجة المبقبقة ويمتلئ فمي بالملوحة وأختنق قبل أن أرتفع في الهواء أو هكذا أحسّ.. يغيب كلّ شيء.. تنعشني رائحة زهر البرتقال، يموج جسدي وسط عشّ من الدّفء، يغادر الثقل جفوني فأفتح عينيّ على وجهه يطلّ عليّ من فوق كقمر ضاحك. أتشرّب ابتسامته الهادئة قبل أن يستيقظ وعيي شيئا فشيئا.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :