محمد بوعود
مضى عليها الآن نصف ساعة كأنها الدهر وهي جامدة في مكانها والغرباء يحتلون منزلها ويسألونها عن أشياء لا تفهمها، وابنها لم يظهر منذ البارحة ونامت ولم تستطع انتظاره، وقلبها الآن يقول إنّ صغيرها قد أصابه مكروه.
-أختي زعرة أنت مرا مؤمنة بالله وتعرف اللي ربّي فوق الناس الكل، واللي هو كاتبلنا كيفاش نعيشوا ووقتاش نموتوا..
قاطعته “علاه يا سي ابراهيم الحديث هذا الكلّ، آش ثمّة، قوللّي وريّحني راه ڨـلبي طاح وريـڨـي شاح، قول راه ماعادش فيّا، راهو ڨـلبي ما قايللي خير، ولتوا حدّ ما حبّ يعطيني الصحيح”.
-مبروك، ولدك مبروك يا زعرة راهو..
قاطعته مرة أخرى بلهفة وحرقة وجزع أكثر “شبيه مبروك، آحليلي وليدي لا باس، آش عملوله، وينه هو توّا فين هزوّه، شكون ضُربه، علاش آش عمللهم وليدي يضربوا فيه..”
-مبروك يا زعرة تِقْتَلْ، قتلوه، ذبحوه، قصّولوا راسو وبعثوهالك في الصّاشي الكحلة اللي جابها سمير البارح…
ووووووه، صرخت بتفجّع، صرخت بقهر، صرخت بحُرقة، خرجت الوُووووه من أحشائها قاتلة، كاوية، ذابحة كسكّين تشقّ الضمائر بنصلها الحاد، تردّدت الوووووه الملتاعة في الحوش وفي الدوّار وفي كل المنطقة، سمعها الجميع في السّهل والسّفح وحتى في الجبل وفي أطراف المدينة، سمعها كل من كان على مسافات متفاوتة من هناك، ضربت صدرها، لطمت وجهها، مزّقت الشعر والجلد والثياب، ارتمت على الثلاجة قبل أن يدركها الشيخ إبراهيم، أخرجت الكيس الأسود، احتضنته، تلمّسته مرّرت أصابعها على الوجه، عينيه الهامدتين، فمه وشعره، قبّلت الجمجمة في كل موضع، كانت باردة، دامية، لزجة، عطنة، لكنها تتشمّم فيها رائحة ضناها، رائحة كبدها المشوية، رائحة عُمرها الذي اختزلته في قرد العشّ وقرّة العين الذي لم تجد منه إلا هذه الرأس التي لا تتبيّن ملامحها وسط الدموع والعمى والحزن والقهر.
تفجّعت بصوت مقهور، بغُصّة الظلم والعجز وصدمة الفَقْدِ، ندبت، ولْولت الى أن انهارت، داخت وهي تحتضن الرأس، تشمّها وتقبّلها، “غدروك يا وليدي، لمّن خلليتني يا كبدي، غدروك اللي ما يخافوش ربّي، ذبحوك يا مضنوني، علاه وليدي علاه مشيت وخلليتني، علاه يا روحي آش ندير من بعدك ناي، يا وليدي علاه أنت، آش عملت يا ربّي تشويني في كبيدتي، يا ربي راهو كان ايديّ وعينيّ، يا ربيّ يا حنّان وليدي صار عندك وأمره في ايدك، وأنت اللي تاخذله حقّه، واللي تنتقمله وعندك ما تضيع حقوق، يا ربّي يا سيدي يا عالي يا مولى القبّة الواسعة الكبيرة، والنجوم المنيرة، منهو بيّه، منهو مازال يطلّ عليّه، منهو مازال يقولي يا زعرة البيّه، راه كبدي في الرعية، لا عمل آثام ولا خالط حُكّام، يا ربّي يا عالي راه وليدي مسكين زوّالي، صغيّر وبَاَلهْ خالي، يا ربّي آش عملت في دنْيتي المشومة، علاه يا ربي يشووني، علاه يشوّقوني في كبدتي ومضنوني، ها ربي راني عبدتك الضعيفة، ها ربّي علاه وليدي يمشي جيفه، ها ربّي راني عبدتك الضّريرة، ها حليلي راني ذِهْبت عليّا الشيرة، راه وليدي كان يحلّ عليا الباب، يا ربّي راه دنيتي ومنيتي، راهْ خلاّني كي دْعي الشرّ لا سحاب لا مطرْ، لا بصرْ لا نظرْ…”
كانت الخالة زعرة تعدّدْ وتجوّحْ على ابنها، كانت تنوح فلذة كبدها، تندب حظّها الذي طعنها في مقتل، تنوح على سعدها الذي يأبى إلا أن يسدد لها الضّربة تلو الأخرى، على عُمرها الذي ضاع سُدى، على عائلتها التي تفرّقت بين المَهَاجر والمقابر، كانت تنزف ما في داخلها دموعا وعويلا، خبّطت على جسدها النحيل بكِلتا يديها، كشطت وجهها حتى بان العظم، كانت كحيوان جريح، تضمّ رأس ابنها الذبيح وتعُول بقهر يمزّق الأفئدة، يحزّ الضمائر، يُفتّت الصخر ويُبكي الحجر.