كتب :: عبد الرحمن جماعة
يقولون: فلان رجل بكل معنى الكلمة، وتلك المرأة جميلة بكل معنى الكلمة، وهذا الشيء رائع بكل معنى الكلمة.
يمكننك أن تتفهم ذلك حين تكون بين أناس يدخرون بعض المعاني في جل كلامهم، ولا يشحنون الكلمة بكل طاقاتها ومعانيها إلا في حالات التأكيد.
إلى هنا يبدو الكلام سهلاً وسلساً، وطريقة استعمال جملة “بكل معنى الكلمة” واضحة ومتاحة للجميع.
لكنني أدركت أن الأمر لم يكن بهذه البساطة وأنا جالس في مقهى مع أحدهم وقد نفخ رأسي بسب وشتم وتجريح أحد أطراف الصراع، إلى درجة أنه قال فيه أضعاف ما قاله مالك في الخمر.
كل هذا لم يُشغل بالي..
فنحن قوم لا توسط عندنا، نتعامل مع غيرنا بإحدى طريقتين لا ثالث لهما: إما تحت أقدامنا وإما فوق رؤوسنا، إما قديس وإما إبليس.
ولم يُشغل بالي أيضاً أن جليسي هذا بشحمه ولحمه.. وبنفس القميص، سمعته ذات مرة يُطبل لنفس الشخص، إلى درجة أنني خشيت أن يؤلهه.
لكن الذي شغل بالي كثيراً، أنه قال لي: “هو (بزقلليف) بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ”..
ذُهلت.. وتوقف دماغي عن العمل للحظات، عُدت إلى البيت مشياً بعد أن نسيت سيارتي أمام المقهى، وأنا أتكلم مع نفسي بصوت مسموع: هل يمكن أن يحدث هذا؟!
مستحيل!
هل يُعقل هذا؟
أيكون لكلمة (بزقلليف) معانٍ عدة، وأنا لا أعرف منها معنىً واحداً؟
في البيت؛ قلّبتُ كل القواميس التي بحوزتي، حاولت البحث حتى في اللغة التركية التي لا أفقه فيها إلا كما يفقه السياسي الليبي في السياسة.. ولكن دون جدوى!.
حاولت أن أنسى هذه الكلمة، وأن أتصالح مع جهلي بها، وأن أُصبِّر نفسي على إفلاسي من أي معنىً من معانيها.
لكن الأمر لم ينتهِ عند هذا الحد..
نفس الجليس.. مرة أخرى.. وفي نفس المكان، لكنه هذه المرة يمدح أحد زعماء المليشيات ويُثني عليه.. ثم قال عنه: إنه (وطنيٌ) بكل معنى الكلمة.
فرحت..
هذه المرة كانت سهلة، كسهولة سؤال: “أين تقع ليبيا؟”، في مادة الجغرافيا.
عدت إلى البيت بسيارتي هذه المرة وأنا مملوء إلى مفرق رأسي بالزهو والافتخار، وصرت أتفلسف مع نفسي، وأستلُّ من كلمة “وطنيّ” المعنى تلو الآخر، حتى صارت الكلمة كقبعة ساحر، لا تتوقف إخراج المعاني.
الصدمة كانت كبيرة حين اكتشفت أن تلك المعاني على كثرتها لا قيمة لها من الناحية العملية، وأنها أشبه بشجر الزينة في فصل الخريف، لا ثمر، ولا ظل، ولا حتى زينة.
وأول صدماتي كانت في العجز عن إيجاد معيار حقيقي للتفريق بين الشخص الوطني وغير الوطني.
فالوطنية ليست قرناً ينبت في الرأس، ولا علامة تظهر في الجبهة، وليس لها لون أو رائحة أو طعم، ولا يوجد مقياس أو ترمومتر يقيس درجة الوطنية.
إن كلمة “وطنيٌ” فضفاضة، مائعة، واسعة، مرنة، يمكن إلباسها لأيٍ كان أو سلبه إياها.. تماماً مثل كلمة “شهيد” و”قبائل شريفة”… والقائمة تطول.
إنه فخٌّ اللغة يا سادة..
ذلك الفخ الذي لم يقع فيه غيرنا، حين رأوا أن القانون وحده هو الفيصل في النزاعات، والحَكم في الصراعات، والمعيار الحقيقي لتقييم الآخرين والحُكم عليهم أو لهم.
فالقانون له مواد واضحة وصريحة ومكتوبة بلغة صارمة، وهو للجميع وبالجميع وفوق الجميع، ومن خالفه فهو…. بزقلليف بكل معنى الكلمة!.