بقلم :: عبد المنعم الجهيمي
مع اقتراب فصل الصيف يأتي موسم الهجرة غير القانونية، وتزدهر مدينة سبها عاصمة الجنوب بتجار البشر وبالمحلات التي تعتاش على المهاجرين من هنا وهناك، ومع هذا الازدهار تتكرر نفس تلك القصص المؤلمة للأفارقة الذين تكالبت عليهم نوائب الدهر وجشع التجار وقلة الوعي والادراك.
يبدأ الإفريقي رحلته عبر الصحراء الكبرى قاصدا ليبيا وهو يحمل أحلامه بالوصول لأوروبا أرض الأحلام السعيدة التي يهون لأجلها كل شئ، ولكنه لا يعلم ولا يدرك حجم ومقدار الثمن الذي سيدفعه من أجل تحقيق ذلك الحلم.
ففي ليبيا لن يجد لنفسه مرتعا ولا ملجأ من تجار البشر، وفي أحسن الأحوال لن ينجو من تلك النظرة الدونية التي تضعه في مصاف الحيوانات، فهو في عرف الكثيرين من أهل البلاد عبارة عن مخلوق موجود للخدمة فقط، فلا يطمع فيما هو أكثر من ذلك، عليه أن يعمل ويعمل ويعمل دون توقف، ولن يرضى عن عمله أحد فهو محل شك ومحل ريبة، ولن يناله خير مهما أتقن عمله وتفانى في خدمة رب العمل.
نظرة بسيطة على أحد شوارع حي عبدالكافي بسبها تنبئك بحال مأساوي للأعداد الهائلة من الأفارقة الذين يقطنونه في ظروف صعبة، جعلت منهم حذرين في التعامل مع أي ليبي لطيف أو يظهر بعض الظرف، وصارت علاقتهم مع الليبيين علاقة عمل يكتنفها سوء الظن والشك والريبة وتوقع الغدر على الدوام.
وإذا مانظرنا للأمر من جانب آخر، نجد أن مهن كثيرة في سبها وتجارات متعددة تعتاش على المهاجرين الأفارقة وحاجيات هجرتهم، فتكونت في حي عبدالكافي مثلا محلات ومتاجر جلّ زبائنها منهم، فهم لايستطيعون التداول بأريحية داخل المدينة، وبالتالي لا يمكنهم قضاء حوائجهم وشراء بضائعهم إلا في نطاق ضيق جدا، هذا الاحتياج أوجد محلات تجارية في مناطق إقامة المهاجرين الأفارقة، وصارت مصدر رزق للشباب الليبيين القائمين عليها.
ومن هذا المنطلق تواجدت المطاعم والمقاهي ومحلات الملابس وبعض دور التسلية، وهي مشاريع ليبية خاصة وتعيش بأموال هولاء المهاجرين وتستفيد من إقامتهم في المنطقة، ونستطيع إلى ذلك إضافة الأرزاق التي يدرها العمل على تهريب المهاجرين من سبها إلى وادي الشاطئ، الذي يدر يوميا ما لا يقل عن ستمائة دينار.
هذا الواقع يخفي بين طياته قصصا مؤلمة عن المهاجرين والمقيمين، قصص أبطالها فتيات يمارسن الدعارة وشباب يرتادونها، قصص يتصدر مشهدها أفارقة ضاقت عليهم بلدانهم، ورافقهم الضيق إلى المهجر، قصص لا يحب أحد سماعها فضلا عن نقلها وتداولها ونشرها.
كل ماسبق كان يدور في ذهني وأنا أصور إحدى الدوريات التابعة لكتيبة مسلحة، وهي تقل عشرين إفريقيا ألقت القبض عليهم في الصحراء جنوب المدينة، كانوا جالسين بشكل غير مرتب في السيارة، ومن الواضح أنهم تعرضوا لموجة من الضرب والتعذيب بعد أيام قضوها في صحراء قاحلة، كانت أعينهم تفيض بالخوف من المجهول، ينظرون إلى كل حركة وكل سكنة معتقدين أنها ستستهدفهم، لايفهمون لغة المسلحين الذين يناقشون مصيرهم وما سيفعلونه بهم.
أصابهم شئ من الفرح ظهر في عيونهم عندما رأوني أحمل الكاميرا، والتقط لهم الصور، وزاد اطمئنانهم عندما تحدث لهم زميلي بالفرنسية، هنا أصابهم جنون وصار كل منهم يطلب أن نساعده ويحكي لنا قصته مع الصحراء، ولكن المسلحين الذين لم يفهموا سر هذه الموجة من “الرطانة” أسكتوهم بطريقة فجة، كانوا يعتقدون أنه بوسعنا مساعدتهم أو حتى التخفيف من حدة ظروف احتجازهم.
عندما سألت كبير المسلحين عن حيثيات القبض عليهم، وقف أمام الكاميرا مزهوا بانتصاره في ضبط هذه الثلة من المهاجرين، وغرّد وشرّق وغرّب، وصار يطالب الجهات الحكومية بأن تدعمه وكتيبته وتطلق يده في التعامل مع من وصفهم بالمجرمين. ما هالني في حديثه أن اعترف أن كتيبته لا تملك طعاما يكفي هولاء ولا تملك إمكانية احتجازهم لمدة طويلة، وحين سألته عن مصيرهم أو كيف سيتعامل معهم في ظل هذا الواقع، أجاب ببساطة سنطلق سراحهم!!.
كانت إجابة بسيطة ومختصرة ولكنها عبرت عن كم هائل من احتقار النفس البشرية وعن تلك النظرة الدونية التي أباحت لبعضنا أن يعتقل هولاء ويعذبهم ويساوم بهم مساعدات وامتيازات من الدولة لينتهي مؤخرا إلى إطلاق سراحهم، طبعا بعد أن يأخذ أموالهم ويبيع بعضهم لتجار البشر ويشغل النساء منهم في بيوت الدعارة، وبهذا يكتمل المشهد وتتواصل عجلة اقتصاد من يعتاشون على هذا المشهد.
كنت استغرب وحشية كل الأطراف المسلحة الليبية المتحاربة عندما تقدر على خصومها، ولكن عندما نظرت إلى حالنا في التعامل مع مهاجرين لجأوا إلينا صار الاستغراب عاديا وقد يكون مقبولا، فانعدام الرحمة وحدة الطبع واحتقار الآخر صارت أخلاقا متأصلة في الكثيرين منا، وتنسحب على خصومنا بسهولة فنستحل بحقهم كل شئ، لا أدعو لتوطين المهاجرين الأفارقة ولا لترحيلهم، فهو أمر يخص سيادة الدولة، ولكن أدعو لشئ من الرحمة والإنسانية في التعاطي معهم ومع قضاياهم. عبدالمنعم الجهيمي