- عزالدين عبدالكريم
رغم محاولات دفن بعض الأحزان والمآسي للاستمرار في الحياة ، تأبى الأحداث إلا أن تطفو على سطح العقل ، خاصة عندما يشكل الحدث ذكرى تاريخية يتم استذكارها كل سنة ….
في الأعوام الماضية وكلما تم التعرض لمأساة طائرة الخطوط الليبية ” الرحلة 114 ” التي أسقطها الكيان الصهيوني عام 21 فبراير 1973 ، يعاد خلخلة الخنجر الموغل في القلب ، فينشط ألمٌ من سباته ، ليعيش حتى وقت أتمنى ينتهي بغشيان النسيان مرة أخرى …
لم أرغب في التحدث عن علاقتي بالأمر ، لكنني أحسست هذه المرة بوجوب ما يجب من قول ترحماً على من قضى .
لا شك في أن أي حادث مؤلم يمس الأبرياء في أي بقعة من الأرض ومن أي عرق أو دين ، سيحدث وجعاً عند المتلقي الطبيعي ، ويزداد هذا الوجع كلما برزت عناصر لعلاقة ما بالضحايا ، وفي حادثة الطائرة الليبية ، فلا شك أن الوجع كبير ، بحكم أنهم ليبيين وعرب ، لكن الوجع يسكنني لعلاقة شخصية ببعضهم .
ثلاثة من ركاب تلك الطائرة كنت على علاقة بهم وأنا شاب في مقتبل العمر ، مملوء بحماس لا يغيب عنه قدرٌ من الوهم ، عائد إلى قلة التجربة ، وسيادة نظرتي الوردية لواقع ملبد بالغيوم لم أراها …
الأستاذ صالح مسعود بويصير وزير الإعلام الليبي حينها ، حتم علىَّ أمر سياق إداري أن ألتقيه بناءً على طلبه ، وعندما جلست معه ، كانت صورتي المسبقة على وظيفة الوزراء تقترب من صورة الملوك والسلاطين في الأزمنة الغابرة وفق ما جسدته لنا أفلام السينما ، لكنني حالما دخلت و وقفت أمامه ، دعاني للجلوس ، وبدأ حديثه ، لأكتشف أنني أمام ” أب ” لم أعرفه من قبل ، فحديثه كان موغلاً في الحرص علىَّ ، حاملاً لهموم مستقبلي ، مبدياً قلقاً من أمورٍ لا أرى لها أي نذير !!! نقلني تعامله من حالة خوف وتوجس لرؤية وزير إلى شعور بأنني في حضرة فرد من العائلة كان غائباً ، الشئ الذي امتص مني حالة الهلع ، والتي نقلتني بالتالي الى امتلاك قدرة على إبداء آرائي و رغباتي … ولم أخرج منه ، إلا بعد أن وقع على ورقة بشأني حينها وفق ما أحب ….
إمرأة يقودك هدوءها ، والبراءة التي تسيطر على ملامح وجهها ، إلى أنك أمام إنسانة تسيطر عليها ملامح الملاك ، فتسبح معها في فضاءات تقترب من تجسيدها الأحلام فقط ، وقد تنجح الى حد ما سطور الأدباء المتميزين في الاقتراب من وصفها ، فترغب في أن لا ينتهي الزمن الذي تعيشه معها ، ويتداخل شعور القلق من الزمن المعاش ، والذي لا تريده أن ينتهي ، بسبب أنها تغطيك بهالة سحرية من عوالم لا نقترب منها ، إنها العزيزة الأستاذة والنجمة التلفزيونية ” سلوى حجازي ” !!!!!
سلوى حجازي كانت علامة بارزة في عالم التلفزيون العربي وقتها ، وإطلالتها حتى دون كلام ، كان بمثابة السحر المحقق لراحة المشاهد ، جاءت إلى ليبيا لإنتاج عدد من البرامج التلفزيونية ، ولما كان الولع بالمجال عندي سجادة تأتمر بأمري وتطير بي إلى براحات الكلمة ، كنت أكتب في صحيفة ” الفجر الجديد” التي أدارها عمالقة الصحافة عندنا وقتها ، وفي التخصص الذي كنت أكتب فيه ، أشرف علىَّ الأستاذ إدريس ابن الطيب ، وسمحت لنفسي أن أحبس العزيزة سلوى ساعات و لأيام في أركان التلفزيون الليبي ، لأستنطقها من أجل لقاء صحفي مطول معها ، ولأن مواعيدي معها لا زمن يبدأها ولا وقت ينهيها ، فقد اضطلعتُ بتصويرها فوتوغرافياً بنفسي ، لا أدري الآن في أي ركن من بيت تقبع فيه الصور ، ولا حتى في أي بلد من بلاد الله الواسعة ، لكنني أشعر بوجودها ولقائي القريب بها .
المخرج التلفزيوني ” عواد مصطفى ” كمعظم المصريين ، كان يملأ محيطه بالبهجة ، وكان كالزهرة التي تجذب النحل إليها لتمتص من رحيقها ، الرحيق المتمثل في الخبرة التلفزيونية ، ولم أراه إلا والبسمة القريبه من الضحك تعلو وجهه ، كنت سعيد بصحبته في الأستوديو ، وحتى مساعدته فيما يحتاج رغم أنني لست مكلفاً بذلك ولا تتداخل وظيفتي كثيراً مع إنتاجه ، لكنني تحولت ودياً إلى مساعد له تحت الطلب لتسهيل بعضٍ من الأمور البسيطة ، وكان على مدى الايام التي قضاها عندنا ، عادة ما يجول أروقة التلفزيون للبحث عني ، وعندما كان التركيز يخف ، يمتلأ المحيط بقهقهاتنا ، فقد كان باقة من بهجة ، وهو الآخر لم يفلت مني كصحفي حينها ، ومسكت بتلابيبه في حوار ، وأيضاً لم يفلت من عدستي وهو في حالة العمل .
في ذلك اليوم … سمعت بالخبر ، وكان الوقع جد حزين ….
أدعو العلي القدير بالرحمة والمغفرة لكل ضحايا الطائرة …. وتبقى الأسئلة حاضره متجددة ، ويبقى الحادث ممثلاً لجريمة نكراء لن يطويها الزمان …ونحتاج أن نستذكرها ، ونثبتها عند الأجيال اللاحقة …