بقلم :: علي الرحيبي
لن يختلف عاقلان على أن الساحة الليبية قد شهدت – عقب سقوط القذافي – حالة من التفتت والانقسام والصراع الدامي بين أطراف متعددة وبعناوين إيديولوجيه ومناطقيه صار يعرفها الجميع ..وقد كانت صراعات كارثية حكمها في الغالب النظر للوطن وفق منطق الغنيمه وبروح الثار والانتقام للأسف …وعاش المواطن البسيط في دوامة هذا الصراع ككائن عاجز عن الفعل المؤثر لافتقاره إلى تلك التنظيمات والإطارات التي تعتبر أدوات لازمة لتنظيم حركة الشارع وتجسيد قوة الجماهير التي تستطيع صنع الحدث والتاريخ من نقابات ومنظمات ومؤسسات أهليه حقيقية وليست مجرد ديكورات وهياكل فارغة
كذلك أثبتت الوقائع أن لا احد من الأطراف المتصارعة وبكل اصطفافاتها استطاع أن يحقق حالة وطنيه يمكن أن تنجز تجميعا والتفافا وطنيا قادرا على حسم الأمور وجمع شتات الوطن الممزق والغارق في الدم والنار
.وأمام كل هذا العجز اتجه كل فريق وصف من المتصارعين إلى نسج خيوطه مع قوى دوليه وإقليميه – كانت حاضرة في المشهد الليبي من بداية الإحداث في 2011م – مبتغيا لديها الدعم والمعونة ليحقق نجاحا بمواجهة الصف والطرف الليبي الذي يصارعه ….!!!! وليس من شك أن هذه القوى الدولية والاقليميه لا تبنى سياساتها وفق صبغ العمل الخيري وبتأثير العواطف الانسانيه النبيلة ..بل تؤسس سياستها وفق المصالح وحساباتها …لهذا صار الليبيون يفقدون يوما اثر يوم القدرة على أن يكونوا الأداة الفاعلة في صنع مستقبل وطنهم …ويتحولون إلى ادة محكومة بشروط ومصالح وسياسات الدول الداعمة إقليمية كانت أو دوليه
بعد سنوات من الصراع وانطلاق عملية نهب تاريخية كبرى للمدخرات الوطنية تم تمريرها عبر ميزانيات فلكيه بالقياس لدولة كليبيا ولم يعرفها التاريخ الليبي ( كميزانية حكومة الكيب التي بلغت 67 مليار رغم كونها حكومة انتقاليه لا يتجاوز عمرها -9 أشهر- وفق الإعلان الدستوري الذي جاءت بناء على أحكامه … وميزانية حكومة زيدان التي بلغت 76 مليار رغم كونها حكومة مؤقتة ليست مسئولة لا عن خطط خمسية ولا عشريه تبرر رصد مثل هذا الرقم ..!!! هذا بالإضافة إلى ميزانيات طوراي بحدود 10 مليار أخرى ينص قانونها على كونها معفاة من الرقابة المسبقة – بمعنى اصرف وبعدين حاسبني – !!! ..وقد أثبتت سجلات ديوان المحاسبة أن كل هذه المليارات قد تم صرفها وبإجراءات شاب الكثير منها شبه الفساد ومخالفات القوانين واللوائح المنظمة للصرف ..وبتبذير وسفه لا يمكن وصفه ودون أن تبنى طوبة أو يرصف شبر أو يرمم مستوصف !!.)
لقد كان نهبا مجرما وجه ضربة قاصمه لمستقبل الوطن عبر تدمير مصدر من مصادر القوه وسلاح من أسلحة مواجهة استحقاقات المستقبل واغباء إزالة آثار الدم والخراب ..
بعد كل هذا ..تحرك ما يسمونه المجتمع الدولي ( والذي هو في الحقيقة الدول الغربية الكبرى بشكل رئيسي ) ليرعى حوارا ليبيا استولد منه حلا أطلق عليه اسم ( اتفاق الصخيرات ) وما نتج عنه من مجلس رئاسي ..ومشروع حكومة بعنوان حكومة التوافق الوطني !!!
هلل الكثير من المثقفين ومن احتل مساحة إعلاميه ليعلن بصوت متحمس أن الحل صار قاب قوسين أو أدنى حاثا لنا على تبنى أطروحة أن العالم يمنحنا طوق النجاة عبر دعمه وتبنيه حل للمشكل الليبي …بينما علت أصوات بالاعتراض والذي كان له اثر في تأخر اعتماد الحكومة .. رغم نجاح المجلس الرئاسي في انتزاع قاعدة بحريه في منطقة الشعاب بشاطئ طرابلس مصحوبة بطبول الدعم الدولي …
وتمر الأيام وكل يوم تترسخ ديكورية وشكلية هذا المجلس الرئاسي ..ويتحول إلى مجرد بالون لم يزده نفخ البروباغاندا الدولية إلا ارتفاعا في الهواء وابتعادا عن الواقع واحتياجاته الجوهرية …بل صار المجلس الرئاسي يتجه حثيثا إلى أن يكون صيغة جديدة لطرف من أطراف الصراع بدل أن يكون بديلا عنها جميعا وصيغة تستوعب الصراع وتحتويه !!! فكيف نفسر هذا ؟؟!!
إنني اشعر بالأسف وحتى الحزن عندما اسمع نخبا ليبية مثقفه مازالت ترى أن فشل هذا الاتفاق وضياع هذه الفرصة التاريخية التي يقدمها لنا المجتمع الدولي إنما تتحملها الأطراف الليبية المعرقلة للاتفاق !!!
….بتقديري أن الكثير من النخب المثقفة والسياسية التي تعزف على هكذا أوتار وتنخرط في هكذا جدل سطحي بائس وحتى ساذج …وذلك بسبب جهلهم أو تجاهلهم للحقيقة ألجوهريه التي تتمثل في أن الطرف الدولي – الغربي تحديدا –
ومحاوره الاقليميه هو الذي يعيش حالة اصطراعيه ناعمة تعود إلى مصالح هذه القوى المؤثرة في ليبيا وسعى كل طرف للحصول على ما يبتغى منها – وهذا مر طبيعي وفق حقائق وقوانين وسنن التاريخ البشرى بالطبع –
أن هذه القوى الغربية اتفقت بشكل عام على أن الزمن الليبي قد بلغ نقطه الحرجة وصار من الواجب العمل على خلق حل للحالة الصراعيه والفوضى في ليبيا والدفع باتجاه حال من الاستقرار تحول دون انفلات الأوضاع وتحول ليبيا إلى منطقة حريق شامل يصعب التحكم فيه وقد تصل السنته وحرارته إلى أوربا القريبة وقد تزلزل تأثيراته منطقة من أكثر مناطق العالم حساسيته …إضافة إلى حاجة هذه الدول الغربية إلى عودة تدفق النفط الليبي الذي يشكل بحكم نوعيته وقرب مصادره من أوربا أهمية إضافية له ( ولا ننسي أن اغلب المصافي الايطالية والالمانيا مصممة أصلا للتعامل مع النفط الليبي الخفيف وذي الجودة العالية .)..كذلك فان ما يشجع الدول الغربية على تبنى هذا الموقف الداعم للحل في ليبيا قد يعود إلى أن هذه الدول أدركت أن الكيان الليبي قد استنزفت مدخراته المادية وتعددت جراحه بما يكفل ان يكون الكيان الليبي ضعيفا لعقود قادمة …حيث انه سينفق ما قد يكون متبقيا من مدخرات وارصده خارج ليبيا – أن بقيت وسلمت من ابتزاز الدول التي بها هذه المدخرات والأرصدة – وكل إيراداته المتوقعة في ترميم ما تهدم وتوفير احتياجات المعيشة التي لا تنتج منها ليبيا شيئا يذكر ..وذلك ما سيضمن انعدام أي دور أقليمى أو دولي يحسب الغرب حسابا له في حال وجود ليبيا قوية مقتدرة مالكة لفرارها الوطني الحر والمستقل .
بيد أن هذا الاتفاق العام و ما نتج عنه في الصخيرات وما يحدث في ارض الواقع يكشف أن ثمة خلافا متفجرا بين هذه القوى يكمن تحت الاتفاق العام يتصل بمسالة تقاسم الحصص في ما يتعلق بالاستفادة من الثروات الليبية والتي على رأسها النفط والغاز والتي تشكل موضوع مصالح هذه الدول …( وهذا الخلاف بتقديري هو السبب الجوهري وراء الحالة البائسة التي وصل إليها اتفاق الصخيرات ومنتوجه المتمثل فى المجلس الرئاسي …)
…فالمعلومات والمعطيات تؤكد احتدام الصراع بين ( بريطانيا وايطاليا – بدعم امريكى ) و ( فرنسا مدعومة بألمانيا ) حيث أن الانجليز والأمريكان يعملون للحيلولة دون حصول فرنسا على الغاز الواقع فى الغرب الليبي ( والمتمثل في حقل c7 الواقع بحوض نالوت والذي به مخزونا يكفى – حسب الدراسات – احتياجات اوربا لمدة 30 عام ..وهو الحقل الذي حصلت شركة توتال الفرنسية على عقد امتيازه في عهد القذافي ثم تم إلغاء العقد في الثلث الأخير من عام 2010 م نتيجة لمخالفة توتال شرط عدم إدخال طرف ثالث في العقد وقيامها بإدخال ( قطر ) معها في العقد ..وقد قامت ألدوله الليبية بتغريم توتال بالإضافة إلى إلغاء التعاقد بمبلغ يقرب من 450 مليون يورو ..وقد كان هذا الإجراء من أهم العوامل التي دفعت فرنسا للتدخل بحماس ومبادرتها بالضربة الجوية قبل صدور قرار مجلس الأمن عام 2011)
ويعود الموقف الامريكى والبريطاني إلى شعور هاتين الدولتين بقوة النفوذ والسيطرة الفرنسية في إفريقيا خصوصا في منطقة الشمال الافريقى وجنوب الصحراء ..حيث سيزداد هذا النفوذ قوة بحصول فرنسا على الغاز الليبي إضافة إلى ما سيوفره هذا الامتياز من فسحة لفرنسا واقتصادها مما سيمنحها هامشا من الاستقلالية عن القرار الامريكى وهى استقلالية لها عمقها التاريخي في التاريخ الفرنسي يمثله الإرث الديغولى الذي يمثل ابرز بصمات ديغول فى تاريخ فرنسا ..
واستعملت أمريكا وبريطانيا ايطاليا كواجهة لهذه السياسة عبر تبنى ايطاليا كدولة تستأثر بالغار الليبي عبر ميناء مليته وشركة ( أجيب ) وتولت الدول الثلاث دعم المجلس الرئاسي في سياق يضمن هذا التوجه
أمام هذه السياسة اتجهت فرنسا للعب أوراقها مدفوعة بتمسكها بحقها في الغاز الليبي في المشروع الذي صار يسمى ( مليته2 ) فاتجهت في خطوة أولى لتقديم دعم عسكري لحفتر في معارك بنغازي كان له اثر واضح (وهذا أمر صار معروفا وتم تداوله في وسائل إعلاميه مطلعه )
وفى هذا المسلك تأثير واضح على الاتفاق السياسي الذي اعتبر مستبعدا لحفتر عبر مادته الثامنة ..فأصبح حفتر بعد تقدمه في بنغازي بتأثير الدعم الفرنسي إلى حد كبير – إضافة إلى الدعم الاقليمى المعروف المصدر والأسباب – رقما ليس بوسع كافة مواد إنفاق الصخيرات أن تشطبه مما فرمل الاتفاق وحد من حركة وحكومة المجلس الرئاسي ..بصورة جعلته اتفاقا يحتاج إلى اتفاق جديد أو الانجراف إلى تحول المشهد الليبي إلى مواجهة جديدة سيكون مجالها حقول ومواني النفط وخريطتها شرق غرب
وهى مواجهة لن يكون لها أفق في الزمن وستنقل ليبيا إلى حال غير مضمون النتائج بتقديري أن ما قامت به فرنسا مع حفتر كان خطوة تعويقية فقط …حققت هدفها في عرقلة الاتفاق السياسي عمليا وأوصلت به فرنسا رسالة للطرف الأخر توحى بصعوبة استبعادها من كعكة غاز الغرب الليبي …لكنها في نفس الوقت وعبر دعمها المحدود والمحسوب لحفتر تكشف أنها لا تراهن رهانا كاملا على حفتر ( الذي تصرح بعض الرؤس السياسية الفرنسية بأنها لا تعرفه جيدا ..- وهو التعبير الذي يمكن أن يترجم في هذا المجال بأنها لا تثق به – )
وبتقديري وحسب ما يتوفر من معطيات فان فرنسا تعمل بجد وبقدر من السرية والحكمة على إعادة ترتيب الجنوب الليبي الذي تعتبره من ارثها التاريخي في ليبيا مبتغية أن كون هذا الجنوب هو الرقم والورقة التي ستقلب المعادلات الليبية وذلك عبر تشجيع ورعاية تنسيق وتنظيم الجنوب الليبي وتوحيده ودعم عملية تكوين كيان قيادي موحد وبذراع مسلح نواته عناصر وقيادات في الجيش الليبي أبرزهم ( اللواء على كنه ) .. ويبدو أن الوقائع المتسارعه بشان قضية ( سيف الإسلام ) التي تمثلت في جهد اعلامى أعاد هذه الشخصية للأضواء في جهد لا تخفى ألغرضيه والبرمجة فيه إلى أن وصل الأمر إلى حد إعلان الإفراج عنه … ومن المتوقع أن يكون الجنوب الليبي محطته القادمة إذا ما استكملت عمليات تأمينه هناك …وربما يعود هذا إلى قناعة فرنسيه بإمكانية أن يلعب سيف الإسلام دورا هاما ومؤثرا على مسار الأحداث وتجميع وتكوين طرف ليبي يمتلك مؤهلات تمكنه من تجميع العديد من الفعاليات الليبية وفى إطار حالة من القبول الشعبي لدى جماهير فقدت ثقتها في كل ما حولها وأرهقتها سنوات الاحتراب والخراب حتى صار من الممكن أن يقدم لها سيف الإسلام كمهندس مشروع تنموي بقيت أطلال هيكله الخرسانية وبقايا معسكرات الشرطات المنفذة تشهد بمدى الخسارة في توقفه وانعزز الاعتقاد بان السنوات التي مرت كان يمكن أن يكتمل فيها لكنه صار خرابا ..!! –
وقد ترى الجماهير في سيف الإسلام صورة المسؤول الذي سبق له وان خاطب الناس مساء 20 فبراير 2011م ليحذر من مخاطر وكوارث صارت لدى اغلب الليبيين واقعا ملموسا معاشا ..!!!
وليس من شك في أن مثل هذه النظرة ستفسح لسيف الإسلام مساحة للعب دور له حجم واثر ليس بالوسع إنكاره وتجعله من الشخصيات الممكن استثمارها في مثل هذا المشروع الذي ترعاه فرنسا كما سلف القول
وربما كان مما سيزيد هذه الورقة الفرنسية قوة هو تلك المعطيات التي تشير إلى أن طرفي الصراع الرئيسيين في ليبيا الآن ( رئاسي الصخيرات ومن يصطف معه …وحفتر ومن يصطف معه ) يتجهان إلى اصطدام حول السيطرة على الحقول والمواني النفطية والذي قد يتخذ للأسف شكل صراع بين شرق وغرب سيطول وسيهدر فيه المزيد من الدماء الليبية الغالية من الطرفين وسيخلق واقعا يجعل ورقة الجنوب المشار إليها تتحول إلى طرف حاسم فادر إلى انهاء الاحتراب الذي لن يقبل الاوربين وحتى الأمريكان باستمراره طويلا لأنه يهدد بانفجارات قد تخرج على السيطرة وتحل بتوازنات دوليه وإقليمية مهمة إضافة إلى كونه سيعرقل استئناف ضخ النفط لأوربا وخاصة ألمانيا التي لم تعد تحتمل استمرار انقطاع النفط عنها …وستلعب ورقة الجنوب دورها الحاسم كبديل للطرفين المتصارعين أو بانحياز لأحدهما بما يكفل حسم المعركة
وليس من شك أن نجاح فرنسا في بناء هذه الورقة ينظمن لفرنسا ما تبتغي الحصول عليه من مصالح في ليبيا وستخلق وضعا يرغم بقية الأطراف كبريطانيا وأمريكا للقبول بذلك
هكذا بتصوري ينبغي أن نفهم واقع ما يجرى في بلادنا ..وأي قراءة أو تحليل يسعى لتقديم المشهد الليبي وكأنه يصنع عبر صراع بين أطراف محليه تمتلك قدرة على صنع الحدث بحرية واستقلال أنما هي قراءة مقلوبة ومزوره وناقصة … فواقع ما المحلى بكل قواه المتصارعة صار اعجز من أن يحقق مثل هذا الهامش من الاستقلالية وهو رهين بالكلية لتأثيرات الخارج وصراعاته لذلك يتوجب على اى جهد وطني الوعي أولا بمصالح هذه القوى الدولية وتفهم صراعاتها حول هذه المصالح كخطوة أولى لانتزاع واسترداد هامش للحركة والمناورة لتحقيق الهدف الوطني العام وليس الأهداف المصطلحية الخاصة بطرف أو قوة ما ..سياسية وإيديولوجية كانت أو مناطقيه …
ويبقى الأمل في خلق وعي وحالة وطنية فاعله املآ يراود النفس رغم كل واقعنا المر