هل محكمة الجنايات الدولية محكمة عنصرية؟

هل محكمة الجنايات الدولية محكمة عنصرية؟

بقلم :: محمد جمعة البلعزي :: صحفي وكاتب مقيم بمدريد

عديدة هي بلدان القارة السمراء التي واجه اتهاماتها ضد محكمة الجنايات الدولية بعدم الحياد والتزام مواقف قائمة على التمييز العنصري بدلاً من نبذه، وإصدار أحكام تخلو من النزاهة. من بين تلك البلدان غامبيا وجنوب أفريقيا وبوروندي، إلى حد أنها قررت سحب عضويتها من معاهدة روما التي تم بها تأسيس المحكمة , ظهرت المحكمة إلى الوجود عقب اجتماع عقدته وفود دبلوماسية من جميع أنحاء العالم سنة 1998 في روما، تركز في الدراسة والبحث في هدف نبيل ومثالي، تمثل في صياغة محاور لإنشاء محكمة دائمة لمحاكمة المسؤولين عن جرائم القتل والإبادةوإلحاق أضرار بالبشرية.وقد أسفرت نتيجة المفاوضات على صدور نظام أساسي سمي ” معاهدة روما”،ودخل حيز التفعيل في يوليو 2002 وصادقت عليه 60 دولةووضع مقراً للمحكمة بمدينة لاهاي الهولندية.

كانت النتيجة المباشرة للمعاهدة، أن التحقت بعضويتها دول أخرى ليصل العدد إلى 124 دولة، وكان عددالدول الأفريقية الأكبر، 34 دولة، متلهفة ومتحمسة لتأسيس المحكمة رغبة منها في أن تبث المحكمة في العديد من قضايا الإجرام والإبادة والمجازر التي حدثت بالقارة ولم تلق يوماً أدنى عقاب، إلا أن جذوة حماس تلك الدول بدأت تخبو شيئاً فشيئاً، فبعد 14 عاماً من عمر المحكمة، قررت الدول المذكورة انسحابها من عضوية المعاهدة متهمة المحكمة بالكيل بمكيالين وسلوك أسلوب عنصري في أحكامها. وقد أطلق عليها وزير الإعلام بحكومة غامبيا، شريف بوجانغ، صفة ” المحكمة الدولية القوقازية لملاحقة وإذلال الأشخاص السود” [ويعني بالقوقازية جنس الإنسان الأبيض].

لم يكن الوزير مخطئاً، فالأرقام لا تجانبه، إذ أن الأشخاص الأربعة الذين صدرت بحقهم عقوبات من المحكمة، كانوا من دول إفريقية، ومن بين التحقيقات العشرة المفتوحة في الوقت الحاضر على أيدي نيابة المحكمة، تسعة تتعلق ببلدان أفريقية، إضافة إلى جورجيا. واليوم توجد دول أخرى تخضع “للتحقيق المبدئي” كخطوة أولى لفتح قضية لها. ومن بين تلك الدول أفغانستان والعراق، على أساس ارتكاب انتهاكات بها على أيدي القوات البريطانية والأمريكية.

عدد من قادة الاتحاد الأفريقي، الذي يضم 54 دولة، دعوا في الماضي إلى الانسحاب الجماعي لكافة أعضائه من معاهدة روما، ورغم أن الانسحاب لم يحدث بعد، إلا أنه من غير المستبعد أن يتم لاحقاً. فهم يعتبرون أن محكمة الجنايات الدولية تم تأسيسها من قبل القوى الغربية للقضاء على الزعماء الافارقة الذين لا يروقون لها. هناك من يرى غير ذلك، معتمدين على أن هذه الوقفة التضامنية ليست سوى موقف سلبي ضد مبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية ودولة القانون، وإنه إذا كان من ارتكب تلك الجرائم أفارقة، فلماذا لا تتم محاكمتهم؟

المعضلة الرئيسية لمحكمة الجنايات الدولية، لا نجدها في مَن يريد الانسحاب من عضويتها، بقدر مَن هم الذين لم ينضموا إليها بعد.فالبلدان الأكثر قوة عسكرية في العالم لم تصادق على وثيقة روما ولا تحدوها الرغبة في الخطو نحو ذلك.هذه البلدان هي الولايات المتحدة وروسيا والصين وإسرائيل. وبالتالي فهي لا تخضع لقضاء المحكمة الدولية العليا، وذلك هو صلب القضية، فرفض الانضمام يعني عدم الرغبة في إخضاع مسؤوليها، المتورطين في عمليات قتل وتعذيب وجرائم دم، لأحكام المحكمة، وبالتالي فهي الأولى من حيث عدم احترام القانون الدولي وحقوق الإنسان، رغم كل ما تدعيه.

المفارقة هنا تكتسي معياران لقراءة مفصلة لوثيقة روما. فالمادة 13 منها تنص على أن مجلس الأمن بالأمم المتحدة (الذي تنتمي إليه أمريكا وروسيا والصي كأعضاء دائمين) يمكنه أن يطرح وضع دولة ما أمام محكمة الجنايات الدولية. في الوقت الذي تضيف فيه المادة 16 أن للمجلس الصلاحية لتجميد قضية أو تحقيق تم الشروع فيهما، ولمدة 12 شهراً، بمعنى أنه رغم أن الدول الثلاث المذكورة غير مجبرة على الخضوع لأوامر المحكمة، بإمكانها أن تؤثر بشكل حاسم في عملها.

ولو تتبعنا الجبهات الدبلوماسية المفتوحة في أفريقياضد المحكمة،لوجدنا أن انسحاب دولة ما من وثيقة روما يعد،من وجهة النظر القانونية، قراراً سيادياً يتوجب على تلك المحكمة احترامه. ومع ذلك، فإن رئيس مجموعة البلدان الإفريقية الأعضاء بالوثيقة، القاضي السنغالي “صديقي كابا” وجه نداءً لالتزام الهدوء داعيا لإجراء حوار مع البلدان التي قررت الانسحاب (بوروندي وغامبيا وجنوب أفريقيا)، قائلاً في مؤتمر صحفي عقده بداكار: “علينا أن نتعرف على ما هي الأسباب التي تثير قلق هذه البلدان وشكاواها وانتقاداتها”،وكأنه لا يدرك كنه ذلك القلق.

ومن بين البلدان الثلاثة التي أعلنت انسحابها، تملك جنوب أفريقيا الوزن الأكبر، فتوتراتها مع المحكمة برزت في يونيو 2015، عندما احتضنت اعمال الدورة 25 لقمة الاتحاد الأفريقي. إذ كان من بين المدعوين في القمة الرئيس السوداني عمر البشير، الذي أصدرت المحكمة الدوليةفي حقه أمراًبالبحث والقبض عليه بسبب اتهام نظامه بارتكاب مجازر ضد البشرية في دارفور. كان يتحتم على جنوب أفريقيا، كدولة موقعة على ميثاق روما، اعتقاله وتسليمه إلى المحكمة، لكنها رفضت الإقدام على تلك الخطوة معللة بأنها لم تجرؤ نظراً للحصانة التي يتمتع بها البشير، إلا أن المحكمة وجهت لها انتقاداً لاذعا ولا زالت تدرس إمكانية اتخاذ إجراءات ضد جنوب أفريقيا. ورغم أن هذا البلد كان قد طلب رسمياً سحب عضويته من معاهدة روما، إلا أن الانسحاب يتطلب مرور سنة ليتم تنفيذه بصورة نهائية.

أما بوروندي، التي تحتل إحدى خانات قائمة ” التحقيق المبدئي” للنائبةالعامة بالمحكمة الدولية، يختلف وضعها عن الدولة السابقة، فقد قتل بها 430 شخصاً واعتقل 3400 ونزح 230 ألف شخص آخرين قسراً، إذ أن ميليشيات حكومة ” بيير نكورونزيزا”ارتكبت جرائم قتل وإعدامات خارج القضاء وملاحقة معارضين بشكل موسع وشامل، ومن هنا يمكن تفسير رغبتها في الانسحاب من عضوية المحكمة , ربما تراجعت غامبيا عن قرارها وتعلن في نهاية المطاف عدم انسحابها من المحكمة، فالأمر يتعلق بكيفية حل مشكلتها الناجمة عن الانتخابات التي جرت في الأول من ديسمبر الماضي. كان قد فاز في تلك الانتخابات المعارض آداما بارّو،الذي صرح للتلفزيون الألماني بأن بلده لن ينسحب من المحكمة.

ولإدراك التحركات التي تقوم بها البلدان الإفريقية في محكمة الجنايات الدولية، يجب أولاً معرفة من أين يأتيها الدعم الدولي، وكما يقال “لا يوجد دخان بلا نار”. فالولايات المتحدة والصين يمكنهما الضغط على حلفائهما للانسحاب من معاهدة روما، أما تلك الدول التي تساندها بريطانيا، وبالذات فرنسا، فهي التي تحبذ البقاء بالمحكمة. فلو قررت فرنسا الانسحاب من المعاهدة، لقامت جميع الدول الفرنكوفونية(ونصفها إفريقية) باتخاذ نفس الخطوة بصورة عمياء، فهي عضوة بالمعاهدة لا لشيء سوى لأن “الأخ الأكبر” سيحميها ويرعاها.

وخير مثال على ما أقول لفهم التأثير الفرنسي على القرار الإفريقي، نجده في دولة ساحل العاج، فقد جرت بهذا البلد انتخابات رئاسية في نوفمبر 2010، أعلن عقبها الرئيس لورانتغباغبو، وزعيم المعارضة، الحسن واتارا، عن فوزهما بها.ورغم إن الأمم المتحدة اعتبرت واتارا الفائز في الانتخابات، إلا أن غباغبو رفض تسليم السلطة. وانحدرت الأزمة نحو حرب أهلية في البلاد خلفت آلاف القتلى ومليون نازح. كان واتارا يحظى بدعم فرنسا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والاتحاد الإفريقي، وكذلك الأمم المتحدة، في الوقت الذي هدد فيه رؤساء دول المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا باللجوء إلى القوة لإجبار غباغبو للتخلي عن السلطة لفائدة واتارا، مما ممكن قوات هذا الأخير من الانتصار في الحرب. وكانت رصاصة الرحمة على الرئيس المخلوع، غباغبو، قد أطلقتها فرنسا، عندما قامت طائراتها بقصف القصر الرئاسي في أبيدجان وإرغام الرئيس على تسليم نفسه. وبعد أن استلم واتارا السلطة، قام بإرسال غباغبو إلى لاهاي ليمثل أمام محكمة الجنايات الدولية منذ يناير 2016.

يبدو أن المحكمة تخضع لأهواء المنتصرين ومن يعاضدهم، فرغم إن قوات غباغبو ارتكبت جرائم، إلا أن ميليشيات واتارا لم تقصر في مهمتها تلك، ولم تتم مساءلة أي شخص من قادة تلك الميليشيات عما اقترفته من مجازر ومذابح، ثم إن تدخل فرنسا وقصفها للقصر الرئاسي هو في حد ذاته جريمة لا تغتفروتدخل سافر في “سيادة”دولة إفريقية معترف بها دولياً وعضوة في مختلف المنظمات والهيئات الدولية، إلا أنها كغيرها من الدول تخضع لمظلة الاستعمار الفرنسي.

دول إفريقية أخرى عضوة بالمعاهدة هددت بالانسحاب من عضوية المحكمة، ففي اجتماع الدول الأطراف بالمعاهدة الذي عقد في نوفمبر الماضي بلاهاي،اتخذ وفدا كينيا وناميبيا مواقف متصلبة، بل أن وفد تشاد قرر مقاطعة الاجتماع. فالتوتر بين كينيا والمحكمة ليس بجديد، فقدكان بدأ منذ مارس 2010، عندما قررت النائبة العامة بالمحكمة، بنصودا، فتح تحقيق بشأن موجة العنف التي جرت في البلاد عقب انتخابات ديسمبر 2007، ويعتقد أن عدد القتلى بها بلغ أكثر من ألف شخص، وإصابة 3500 آخرين ونزوح 350 ألف مواطن. ورغم إصرار النائبة على محاكمة الرئيس اوهوروكنياتا ونائبه في الرئاسة، وليام روتو، إلا أن جهودها ذهبت سدىً لعدم تعاون السلطات الكينية معها،وقفلت القضية لعدم توفر الأدلة.

بإمكاننا المغامرة بالقول إنالبلدان الأخرى، التي يحتمل أن تسير على نفس النهج المضاد للمحكمة، هي تلك التي تقوم بانتهاك حقوق الإنسان أو تحترمها بدرجة متدنية، مثل تشاد ونيجيريا، إلى حد ما، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وأوغندا وكينيا وجمهورية أفريقيا الوسطى والنيجر وبوركينا فاسو. ويمكن أن نضم إلى هذه المجموعة رواندا والصومال، رغم إنهما لا تشكلان طرفا في معاهدة روما.

فهل حقاً إن المحكمة الدولية عنصرية وغير عادلة فعلاً، أم أن القادة الافارقة أدركوا أنهم معرضون لا محالة للمثول أمامها يوماً،تلاحقهم صراخات الضحايا وأنات المضطهدين والمعذبين في بلدانهم، فقرروا النفاذ بجلودهم قبل أن تلهب ظهورهم سياطها؟ أترك الحكم للقارئ.

لماذا وقّعوا إذن على معاهدة يوماً ليفروا من براثنها الآن؟، هل تم الزج بهم للادعاء بوجود “محكمة عالمية عادلة”، ليمثل أمامها فقط أذناب المستعمر القديم والحديث، والتضحية بهم ككبش فداء والتستر عن الفعلة الحقيقيين لما تعيشه شعوب العالم من جرائم ومآسٍ، مباشرة أو بالوكالة، كفرنسا وأمريكا وبريطانيا وإسرائيل. هل سيمثل أمام المحكمة قادة غربيون تلطخت أياديهم بدماء الأبرياء؟يقيناً لا، ولن يحدث ذلك مطلقاً، فالأخ الكبير لا تطاله سياط المحكمة، فهو يتعالى عن هكذا مستوى، وإلا ماذا بشأن مجرمي الحرب من أمريكيين وفرنسيين وبريطانيين، وأغلبهم لا يزالون أحياء، أمثال ريغان وبوش الأب وبوش الابن وتوني بلير وديفيد كاميرون وساركوزي، وغيرهم، الذين أشعلوا حروباًخلال ثمانينات وتسعينات القرن الماضي والعشريتين الأولى والثانية من القرن الحالي، من حروب أفريقيا بالصومال ودارفور والكونغو واريثريا وتشاد ونيجيرياوالنيجر والكاميرون، وحرب البحيرات الكبرى، لكونها غنية باليورانيوم والكوبالت والتحاس والألماس والذهب والأحجار الكريمة، إلى حرب إيران والعراق وحربي الخليج الأولى والثانية، وما حدث ويحدث في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا واليمن،الغنية بالنفط والغاز والمميزة بموقعها الجغرافي، والبقية آتية لا ريب.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :