تَنّوَه
مايشبه ترسب التجارب والمعرفة
- سعاد سالم
حدد مصطلحاتك..فولتير 2-1
الطوفان هو سيل يجرف كل شئ ،الفيضان هو تزايد وتراكم المياة حتى تغمر كل شيء ، لذا فتسمية انجراف شوارع درنة بمبانيها وشعبها نحو البحر بفيضانات إنما هو احتيال و إهانة للمصيبة، وتخفيفا لأثر الروع الذي خلّفه كلٌ من الفساد والإفلات من العقاب.
الرعب
فيما الجثت مغروسة في الطين أو تركها الطوفان عالقة بين الجدران المهدمة أو على جانب الطريق وعلى الشاطئ كان الرعب يصنع قصته الخاصة، وغطت على الصرخات في مقاطع الفيديو الانفعالات العاطفية، ووجد الليبيون اسماء لكل تجسدات تلك الانفعالات المنفلتة، فزعة، تبرعات ،ليبيا واحدة، وكأنما يريدون أن يحتضنوا بعضهم في عزاء كبير ، لأنه وفي تصوري لم يجدوا اسما واضحا للكارثة، وهكذا كان ليجدوا سبيلا للإطمئنان فيما منطقة الراحة التي نركن إليها بكل محتوياتها من أمل وأدعية وحتى لامبالاة تهبط مع درنة نحو البحر.
حتى الثلاثاء بدت هولندا غير منتبهة للطين الذي ابتلع الأصوات هناك، وكنت في المدرسة حينما أقبلت إليزابيت معلمة اللغة وسألتني إن كانت عائلتي بخير بعدما سببه دانيال،عذرا يا عزيزتي لقد وجد الذين يكيّلوا في لفلوس بالميترو له اسم لائق بسواكهم لايحضرني الآن، ناقص يكتبوا (إلا إسم دانيال)، واتضح أن أخبار درنة بدأت في الانتشار في نشرات هولندا بعد التاسعة على مايبدو من ذاك الصباح، وحتى تلك اللحظة لا أنا ولا الهولنديين سمعنا بعد عن انهيار السدين ولا بالندوات والدراسات المتعلقة بهما التي تشرتعت على سوشيال ميديا الليبيين بعد مافات الفوت.
بَدت درنة ليست فقط تحت الركام والماء بل ثمة من هيّل عليها ستارا من العتمة،وقد كنّا بلاد فوق الأربعين عاما عليها يهيل السافي، وصرنا الآن علينا يهيّل الماء مع السافي لول والتالي.
من الطين وإلى الطين
قبل أن أعرف بمصطلح عقدة الناجي، كنت أدور في طاحونة من المشاعر التي تهرسني دون رحمة، فيغمرني الكرب فوق الكرب والألم فوق الألم الذي يزيده ضيق من حولي بي، فالطريقة السهلة للناس بسبب النفور من فيضان الحزن بل يمكنني القول الخوف من تلك المشاعر التي تعصى على الفهم وحتى على التصديق ليمكن التعاطف معها ، لذا سيسمّونها حداد مزمن، قلّة صبر، أو جزع، وطبعا سيحب الكثيرون وصفه بقلة الإيمان، ذلك لأن هذه الحالة والتي مررت بها شخصيا لمرتين، كانت خارج إرادتي ولا أعرفها، حتى طفى مصطلح اضطراب مابعد الصدمة، ليصبح شائعا في تشخيص الحالات التي تعلق في الحزن المسترسل، بسبب شعور عميق بالذنب للاستمرار في العيش، فيما من يستحق أيضا العيش ربما أكثر منا سلبت منهم الحياة.
حينما وقعت في الحزن الممض، وفي الألم الذي مزقني لسنوات أو كاد عقب مقتل خوي محمد، حتى أنني أصبت بصدمة حقيقية بعد أول يوم من غيابه تحت التراب، حينما رأيت من النافذة المطلة وقتها على شارع الجمهورية بأن الشارع مزدحم كعادته بالسيارات، وأن السميسة زارقة بكل لامبالاة، وللحظة أذكرها جيدا شقني الألم وتصورت أن دمي جرى على الأرض، ستة عشر عاما كانت حاجزا بيني وبين النوم والطعام واللهو ولم أتجاوز الغصة حتى هذه اللحظة التي تقرأن وتقرأون فيها، ولم يكن سهلا محو السؤال: لماذا لست مكانه؟ لماذا لم أكن معه لألقي عليه جسدي واحمه من الرصاصات السبع تلك؟ أليست هذه وظيفة الأخت الكبرى؟
لذا وأنا اقرأ مايكتبه بعضنا من أفكار عن هذه التجربة ومن أن هناك فروقا فردية بين الناس، أهز برأسي نعم هذا صحيح ولكن حين يشعر أغلب الناس وهم على هذا البعد الجغرافي بالروع، هذا يقول شيئا واحدا ، أنه آن الوقت للانخراط في العلم، فالنفس البشرية غامضة حتى على صاحبها، ومع كل مايحدث في العالم من كوارث على مستوى العائلات أو المجتمعات إنما هى وإن نجح العقل الباطن (الحامي) في معالجة الحدث الفاجع بالتعمية،واختلاق مسارب تصريف كالغفلة والنسيان والصبر والتدين والعزم، إنما عندما يعتقد صاحب هذه النفس أنه نجا إنما لأنه وقع في شيء أعظم كالضغينة، كالانتقام، وكل سلالة الغضب التي سيجد لها متنفس بعيدا جدا عن السؤال الخطير: لماذا حدث ومن المسؤول، وسواء كان السؤال في العقيدة أو في السياسة في مجتمع لم يعد متسامحا دينيا وسياسيا تحت نظام غير ديمقراطي واقتصاديا منهك بالفساد، ستتصاعد موجات العنف، وستطفوا على سطح هذه الكارثة المزيد من جثت الأحياء.
حدد مصطلحاتك..فولتير 2-2
تم استخدام مفهوم “ذنب الناجي” لأول مرة لوصف مشاعر الناجين من الهولوكوست بعد عام 1933، حسب اطلاعي، واستخدم لاحقًا لوصف حالات الأشخاص الذين مروا بخطر كبير وهدد حياتهم وحياة الآخرين، مثل الكوارث الطبيعية والحروب والأوبئة والجوائح، بالإضافة إلى الأشخاص الذين نجوا من صدمات طبية. كما شعر بعض الموظفين بالذنب واللوم لأنهم استمروا في العمل خلال جائحة كورونا، في حين اضطر الكثير من الموظفين إلى ترك وظائفهم بسبب التبعات الاقتصادية للوباء، وقد يستمر تأثير متلازمة الناجي لفترة طويلة بعد الحادث، وقد يؤثر على حياة الشخص المتضرر ويؤدي إلى مشاكل في العلاقات الاجتماعية والأداء الوظيفي.
الخسارة المفيدة
وقعت فيضانات هولندا في 31 يناير 1953 عندما ارتفع منسوب المياه في بحر الشمال بسبب عاصفة شديدة،نتج عنها وفاة أكثر من 1800 شخص وتشريد نحو 70،000 شخص، وتضررت مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، وهذه الكارثة كما تُعرف هنا ،هى ماجعل من هولندا البلاد التي يقع أكثر من ربعها تحت سطح البحر ينام سكانها باطمئنان بمن فيهم أنا ،وذلك لبناء مهندسيها لنظام معقد من السدود، واستحداث نظام إدارة مياه متطور، فضلا عن مسئولية الاستمرار في التحسين والصيانة.
لدى يقلقني أن نظل كليبيين نعتقد أن مشاكلنا ليست مرتبطة ببعضها، ليس بالفكرة العاطفية، خوت واصهار وبلد واحد وإن هذا صحيح وجيد أيضا، لكن الأكثر صحة وجيد أكثر، أن نضع لنا هدفا بعدما تبين كيف أن وجودنا نفسه مهدد، كيف؟ بأن لانهتف ضد الفاسدين بل ضد الفساد، حتى لايتوحد هدفنا مع رغبة لصوص الاستيلاء على كراسي اللصوص كما في 2011، ذلك من ضمن أشياء أخرى مثل :أن لانشك في الديمقراطية وأن لا نحارب الحريات والمجتمع المدني، وأن لا نعادي العلوم والبيئة،وأن لا نخاف الحقيقة، وأن لا ننتصر لقوم فقط لأنهم قومنا، أبدا ومطلقا ،وأن نتحمل كراشدين مسئولية فرز الغث من السمين، هذا مايجب أن يفعله فينا خسارة قلب درنة بقضّ قضِيضَه،