شققٌ تطلّ على الطفولة

شققٌ تطلّ على الطفولة

جميلة الميهوب

عمارة من أربعة طوابق. تحيط بها أسوار من جميع الجهات. السور الأمامي أقل ارتفاعاً. مدخل العمارة فسيح وأرضيته رخام. المكان المفضل لأطفال العمارة. كنا نلعب فيه كل يوم. نلعب فيه أولاد وبنات. العمارة كانت جميلة ونظيفة. أمام العمارة ساحة كبيرة. أرضيتها إسمنت تستعمل موقفا للسيارات

لم تكن هناك أي علاقات بين الساكنين، ما عدا دقائق محدودة أمام الأبواب تتبادل فيها النساء أطراف أحاديث مختصرة، ثم تذهب كل لحال سبيلها.

حجرة سطح العمارة. يسكنها رجل خلاسي، جميع سكان العمارة متفقون على حبه واحترامه. بوّاب العمارة. رجل وحيد من المرج. فقد كل أهله في زلزال المرج، هكذا كنت أسمع. كان حزيناً، قليل الكلام، لا يتكلم إلا للضرورة القصوى. يقوم بعمله على أكمل وجه. عندما أحمل الطعام إليه، أطرق الباب، فيفتح باب حجرته. يأخذ الأكل ويقفل الباب دون أن يقول كلمة.

شقة الوزير في الدور الرابع والأخير. هكذا كنا نقول (شقة الوزير). وزير سابق مع زوجته. كبار في السن. تظهر اللكنة الشرقاوية واضحة في كلامهم. لديهم شابّان وأختهم شابة تدرس في الجامعة. الشيء الباقي في ذهني أن الأخت كانت ترتدي ملابس طويلة تحت الركبة. كان منظر ملابسها وطولها لافتا للنظر وغريباً في تلك الفترة. أخوتها الشباب اجتماعيون عكسها تماما.

شقة لعائلة أخرى فيها عدد كبير من البنات والأولاد. البنات جميلات ومغرورات ماعدا الأخت الكبرى. لم تكن جميلة ولم تكن مغرورة.

إحدى البنات المغرورات والجميلات كانت دائما ترسلني إلى شاب يقف في نهاية الشارع. كانت تعطيني ورقة، وتقول: ”راك تقولي لحد. غير نبيه يجيبلي دوا من الصيدلية”.

كنت أستغرب وأقول لنفسي: خيرها ما تقولش لأختها أو لخوها يجيبولها الدوا من الصيدلية؟

منذ ذلك اليوم الذي نبّهتني فيه: “راك تقولي لحد”، التزمت ولم أخبر أحدا. هذه هي المرة الأولى.

كان لديهم أخ مقيم في أمريكا ومتزوجاً من شابة أمريكية. في إحدى زياراته لليبيا.رأيت تلك الشابة الأمريكية تغسل سيارته في الساحة. كانت أول امرأة رأيتها تغسل سيارة في الشارع.

شقتّان في طوابق مختلفة كانت تسكن فيهما أختان. كانتا معلّمتين. لا أظن أني رأيت واحدة منهما تزور الثانية. إحداهما طيبة. زوجها رجل قصير، يميل إلى السمنة، بَشوش دائماً. يرتدي ملابس عادية. في كثير من الليالي نسمع الأصوات وهو يضربها. أختها التي لم تكن طيبة، كانت ثقتها بنفسها قوية جداً تكاد تصل حد الغرور. تلك الثقة التي تستمدها الزوجة من احترام زوجها لها. زوجها جاحظ العينين، يضع نظارة طبية، عبوساً، صارماً، وفي منتهى الأناقة.

شقة أخرى كنا نسمّيها شقة العروسة. كانت تسكنها عروس أنيقة لطيفة، رشيقة. أول شقة رأيتها مفروّشة بالموكيت بالكامل. العروس تقود سيارة رينو صغيرة. العريس رجل سمين نسميه “السمين راجل العروسة“.

شقة تسكن فيها سيدة من مدينة درنة ” أبلة فريدة” مع زوجها وخالتها “زينة”. تلك الخالة كانت تشبه السيدات الأجنبيات وترتدي ملابس تشبه ملابس الراهبات. دائماً تدخن. ودائماً ترسلنا إلى الدكان لشراء علب دخان “روثمان”. كنا نفرح كثيراّ عندما ترسلنا لأنها تعطينا نقوداً كثيرة.

في يوم من الأيام نادتني خالتي زينة. أعطتني ورقة نقود. طلبت مني شراء علبة روثمان. عدت من الدكان أقفز فرحاّ لأنها ستعطيني باقي النقود. عندما طرقت الباب لم تفتح خالتي زينة. زوج أبلة فريدة هو من فتح الباب. عندما أعطاني النقود كانت ذراعه نصف ممدودة. ركضت ولم أخذ النقود.

الجارة البشوش التي لا تفارقها الابتسامة. الجارة الفاتنة ذات القوام الممشوق والشعر البني، كانت كالشمس المشرقة. جمالها ساحر أخّاذ. تشبه ممثلات هوليوود في كل شيء، حتى في أناقتها وملابسها. أول سيدة رأيتها ترتدي بنطلون جينز وتيشيرت قصير, كانت تلك السيدة تسافر هي وأطفالها مع خادمتها من دون زوجها في كثير من الأحيان. زوجها إبن عمها، مدير شركة أنيق، ودائماً يبتسم ويحيي كل الناس. كانت تلك السيدة تقول لأمي وهي تضحك: ”أني من سوق الجمعة. أني حتى المدرسة ما نعرفهاش. راجلي لما تزوجني كنت نلبس في ردي. وعمري ما طلعت من سانيتنا“.

أثاث شقتها فخم جداً. الأثاث الأفخم في العمارة. بيانو فخم وأنيق في ركن الصالة. عندما يأتي أقاربنا مع أطفالهم من صرمان. أصحب الأطفال وأذهب لشقة هذه السيدة. أطلب منها أن تسمح لي بالعزف على البيانو.. لم تستاء يوما. بابتسامتها الجميلة المعهودة تقول: ”مرحبتين. خشوا. تعالوا هي، مرحبتين“!

أجلس على كرسي البيانو وأبدأ العزف. صيحات غريبة متقطعة تصدرها طفلتها من ” ذوي الهمم” تخترق عزفي المزعج وتختلط به. أطفال صرمان يحيطون بي منبهرين.

في شقة الدور الأرضي, أسرة جاءت حديثاً من مدينة غريان. كان واضح عليهم عدم التكيف مع المدينة. بقوا فترة بسيطة ثم رجعوا إلى مدينتهم.

الساحة لم تعد موجودة. مبنى ضخم مكانها. ركنت سيارتي في شارع جانبي. لا أثر لطفل في المدخل. عبرت المدخل وصعدت الدرَج. لا حركة ولا صوت. هدوء غريب. وصلت الدور الثالث، حيث كانت شقتنا. فُتح باب شقة “أبلة فريدة” وخرجت منه سيدة كبيرة. خلفها ظهرت سيدة أخرى مع بناتها الصبايا يودِّعنها…

– تفضلي، يا ابلة. شكلك ادّوري في حدّ؟ ـ سألت إحدى البنات الجميلات.

– شكراً. بس سمعت إن في شقة للبيع. ـ وأشرتُ إلى الشقة التي كنا نسكن فيها.

أصرّوا على أن أدخل شقة أبلة فريدة وخالتي زينة. عرفت أن السيدة التي كانت عندهم جاءت تخطب. انتبهت إلى ذراع ممدودة بسفرة عليها عصير وشوكولاطة. غادرت المدخل الخالي من الأطفال مصحوبة بصوت الزغاريد.

منذ ذلك اليوم توقف الحلم الذي استمر يُزعجني سنوات.. ما أزال طفلة ألعب مع الأطفال في مدخل العمارة.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :