هون .. الأبحار فى ذاكرة المدينة

هون .. الأبحار فى ذاكرة المدينة

بقلم :: المهدي يوسف كاجيجي

تاريخ هذه المدينة مثير للجدل مزيج بين الاسطورة والحقيقة، وهى سمة كل المدن الموغلة فى القدم. نحن لا نعرف متى حط الهوانة الاول الرحال على تلك الواحة الواقعة فى قلب الصحراء الليبية،تقول الاسطورة التى يتوارثها الاجيال، ان الاسم الاول هو ” أزكان ” لتتحول الى “اسكان.. او ساكن بن مسكان ” وتقول الرواية الشفهية التى وردت على لسان الشيخ العالم الصوفي أحمد بن زروق مخاطبا التلمساني: ” اذهب الى مسكان واتخذ منها سكنا “. حركة التاريخ توثق عمر المدينة عبر الاحداث التى وقعت على ارضها، على الاقل منذ الالفي عام.
أصل السكان
نحن لانعرف الاصول الحقيقية التى ينحدر منها سكان المدينة، وما زالت الاسطورة تمتزج بالحقيقة، ويقال ان العنصر العربى الذى ساد بعد ذلك ينحدر اغلبه من بطون دياب ” جذم بنى سليم ” الذين قدموا من خلال الهجرة الكبرى والتى عرفت بالهجرة الهلالية، وفى رواية اخرى يقال ان الاسم “هون” جاء من بنى الهون، وهى قبيلة عربية تنتمى الى ” الهون بن خزيمة بن مدركة ” بن لياس بن مضر، جاءت مع الفتح الاسلامي، وتقول احدى الروايات الشفهية ان اصل الهوانة من العلاونة الذين كانوا يقيمون فى النواحى الاربع والقادمين اصلا من المغرب.

المشانق للرجال.. والتهجير للسكان
بعد الفتح الاسلامى دخلت المدينة لمرحلة التدوين والتوثيق،وجرى لها وعليها ما جرى من احداث للمنطقة، عبر كل العهود، ولكن فى عهد الاستعمار الايطالى ما جرى لها كان مختلفا، يقول غرسيانى فى كتابه الطريق الى فزان: فى اليوم التاسع من فبراير لعام 1928م تم الزحف على مدينة هون ومحاصرتها ومنع خروج الاهالي .ولكن ذلك لم يحد من مشاركة المدينة فى معارك الجهاد، ومن اهمها معركتا تقرفت وعافية، وردا على الهزيمة، قامت القوات الايطالية بجمع السكان فى ميدان المدينة ونصبت المشانق لتسعة عشر رجلا، وفى اليوم الخامس عشر من شهر فبراير، تم تهجير ما تبقى فى المدينة من نساء وشيوخ واطفال، فى رحلة طولها ثلاثمائة كيلومتر سيرا على الاقدام الى بويرات الحسون ،ثم من هناك بالبواخر الى مدينتى مصراته والخمس.

التطور العمرانى من الأسطورة إلى هون الحديثة
ما زال الاحياء من الشيوخ يتذكرون بقايا المدينة القديمة ،التى اطلق عليها “هون الحويلة” التى تقع جنوب غرب المدينة الاسطورة ” ساكن بن مسكان “، والتى تعود الى ما قبل الفتح الاسلامي.. “هون الحويلة” بناها خلف الله المنارى واولاده فى القرن الخامس عشر الميلادي، واكتسبت اسم الحويلة بعد الانتقال الى هون القديمة، وقد انتقل الناس منها حين غلبتهم الرمال وزحفت عليهم، واسسوا هون الثانية على بعد 2 كيلومتر من الاولى فى مكان منبسط، تم التخطيط لها بنفس التقسيمات للمدينة القديمة ،من حيث الشوارع واستمرار علاقات الجوار القديمة بين العائلات والأسر.هون القديمة التى بدأ الناس بناءها حوالى عام 1852م ،كان لايزال القسم الاكبر منها قائما حتى نهايات حقبة الثمانينات .

ذاكرة المدينة
تتواصل الحكاية، الشيخوخة تتسلل إلى أوصال هون القديمة، وكان البديل البناء خارج الاسوار القديمة، واستثمار تأجير البيوت القديمة للعمالة الاجنبية الوافدة، ما ترتب عليه من مشاكل اجتماعية واخلاقية، ادت الى اتخاذ قرارات بهدم المدينة، فقامت الكثير من العائلات بتفريغ المبانى من اسقفها وابوابها التقليدية اضافة الى ما جرى من سرقة لكثير من المقتنيات التقليدية،وهجوم العمالة الافريقية القادمة من الجنوب التى اتخذت مما تبقى من انقاض سكنا لها.فى الشهر السادس من عام 1992م، وبعد صراع طويل، تم اخلاء المدينة القديمة من مغتصبيها والموافقة على انشاء “ذاكرة المدينة – لجنة التراث الشعبي” والتى اعلنت افكارها الاساسية: جمع وحفظ الموروث الشعبي، والاعتناء بالمدينة القديمة والعمل على صيانتها، وجمع روايات الجهاد وكل ما يتعلق بالموروث الشعبى من فنون وحرف تقليدية، اقامة المعارض للمقتنيات والوثائق والمخطوطات مع اقامة مكتبة لتاريخ الجهاد فى المدينة، وتم العمل على وضع مخطط لتطوير وترميم قلعة هون التاريخية وتحويلها الى المتحف الصحراوي.انضجت ذاكرة المدينة فكرة اقامة مهرجان تراثى وقدمت تصورها الى ادارة السياحة، التى اقرت مهرجان الخريف لفنون الصحراء ومنتجاتها، كمهرجان اهلى يقوم على العمل التطوعي.

هون القديمة تعود لتفتح أبوابها
من شاهد انقاض المدينة والدمار الذى حل بها، لن يصدق ما حدث، وبمجهود رائع بدأت عملية الترميم ، الاقواس المهدمة والحوائط بدأت ترتفع وترمم ، بحث الهوانة عن مفاتيح دورهم القديمة، اكثر من عائلة قامت بترميم بيتها القديم، بل ونقل البعض الكثير من مقتنياتهم القديمة إلى البيوت المرممة، العمل مازال فى طور التكوين وما يتمناه المشرفون على تجربة ذاكرة المدينة هو أن تتحول الى نموذج رائد للعمل على انقاذ ماتبقى من المدن القديمة، قبل ان يجتاحها طوفان الحداثة، والاحتفاظ بها كميراث وطنى وانساني.

انتهت زيارتى الى ” هون ” فى ذلك الشهر الخريفي، كانت المدينة تستعد لمهرجانها السنوي، وكانت أشجار النخيل مثقلة بتمورها التى اشتهرت بها المدينة، مثل الخضراى، وتمج ،وطغيات، وحليمة، والدجلة.. دعانى الفنان المصور مصطفى عبد اللطيف إلى مشاهدة معرض الصور القديمة، الذى ساهم فيه كل سكان المدينة بما لديهم من مقتنيات، تذكرت وجوها عرفتها فى الصبا ، وتذكرت الاحبة الذين رحلوا عنا، لم تعد هون التى أعرفها، والتى كانت مجرد بوابة للقادم من الجنوب على يمينها ” الفوار ” مزرعة اقامها الايطاليون كمركز تجارب، وباب آخر للمتجه إلى الشمال، وما بينهما تقع دكاكينها القديمة، والمدينة بأقواسها البيضاء وشوارعها المتربة، امتدت المدينة وتحولت الى مدينة عصرية.طرحت السؤال على الشاعر الاستاذ السنوسى حبيب وكان وقتها رحمه الله احد القياديين فى ذاكرة المدينة: من هم الرجال الذين كانوا وراء هذا العمل الكبير، اعنى ذاكرة المدينة؟، ابتسم وقال: كل سكان المدينة.

• النص تلخيص لتحقيق صحفى سبق نشره خريف عام 2007 على جريدة العرب الدولية، ويعاد نشره بمناسبة انعقاد الدورة 21 لمهرجان الخريف السياحي هون .الملصق من تصميم المهندس على العكشي.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :