- المهدي يوسف كاجيجي
(خرابين يا وطن مافيك والى… وذيلك جوالى… والبعض فى المشنقة والقتالي)… هذه الأبيات، مطلع لقصيدة سميت باليتيمة، لأن من قرضتها لم تكتب غيرها، ولكنها كحية موسى، ابتلعت كل ما كتب من قصائد عن تلك الحقبة، التى شهدت ثلاثية المجد، والصمود، والمقاومة، على ارض قارة عافية بمدينة هون. عرس السماء الذى انطلقت فيه زغاريد الهونيات ليزفوا الى الفردوس تسعة عشر روحا طاهرة تدلت أجسادها على المشانق، فشبّهتهم الشاعرة “بعراجين فى رأس عال” و”الجلوة” تعريف أطلقه الناس فى مدينة هون على عملية التهجير القصرى لسكان المدينة وترحيلهم بالكامل الى مدن الساحل الشمالي. ثمانية وثمانون عاما مرت تقريبا على ما جرى وفى كل عام تحتفل المدينة وتبحر فى ذاكرتها فتترنم الشفاه أبيات فاطمة عثمان كإعادة عرض للمشهد الجليل، فى كل مرة. اليست القصيدة توثيقا للحدث؟.
فاطمة عثمان
قال عنها الشاعر والكاتب عبدالوهاب قرينقو فى مقدمته لمقابلته الصحفية الفريدة معها، بعد ان اجتازت المائة عام من عمرها: امرأة من زمن القهر، تصدح فى وجه المشانق . وقال صالح عبدالله الهونى
فى شهادة معاصر لها: انها نموذج للشموخ والكبرياء المطلق، لا تقابل احدا الا وهي مكتملة الاناقة، يعلو رأسها الرباط والمعصب والطراحة، وهًي تسميات لاغطية الرأس التى تستعملها النساء فى مدينة هون. حكت فى شهادتها لقرينو عن واقعتي “الشنق والجلوة” كيف صدرت الأوامر من قبل السلطات الإيطالية بمنع التجول والإقامة الجبرية على الاهالي، كيف منع حق العزاء على الذين شنقوا، وكيف منع ايضا البكاء، كيف ركبت البحر مع المهجّرين قصرا، على مراكب متهالكة، وما تعرضوا له من عملية النهب الجماعي لكلّ ما يحملونه، وتروى كيف ألقي بجثث الاحبة من الموتى والمرضى فى عرض البحر. أمّا فى المنفى فهي تروي كيف اشتغلت مع أمها فى نسج “الجرود” وهو زى وغطاء وطنى ليبي، ومقايضتها بالزيت والتمر والدقيق.
القصيدة اليتيمة
فى شهادة أدلت بها لي ابنتها الوحيدة الاستاذة عائشة قالت: “احتفظت أمّي بذاكرتها كاملة حتى عامين قبل رحيلها عن عمر يناهز 105 عام تقريبا كانت تقول: “يبدو أنني صاحبة الشئ الوحيد: ابن وحيد وابنة وحيدة وعن ميلاد القصيدة قالت:هي قصيدة يتيمة لم أقرض قبلها قصيدة ولا بعدها، فقد شعرت كأنّ احدا “حطها فى رأسي”. فى البداية لم يعلم بها احد سوى أمّي التي احتفظت بها سرّا خوفا عليّ وعلى أسرتي. عندما سئلت: كيف لم تتاثري بموت ابنك الوحيد، ابن الثلاثة والعشرين ربيعا؟ وتكتبين قصيدة أخرى أجابت: “لا أعرف ما حدث فى موت ابنى الوحيد، حزنت ولكن كلام من الموجعة ما جاني “أمّا واقعة شنق الشهداء “فكمن انزل عليّ الكلمات.. كمن كان من حطهم (وضعهم) لي”.
اعادة المشهد
يظل الشعر الشعبى موروثا موغلا فى القدم، ويظل الشاعر صنوا للفارس فى أهميته لدى القبيلة، بل يظل الشاعر ذاكرتها التى تدوّن كل مناحى الحياة بها، وتظل القصائد الشعبية سفر تدوين تاريخ الأمة. فاطمة عثمان.. كتبت لنا قصيدة يتيمة، تحوّلت الى وثيقة تدوين لنضال شعب، توارثتها الأجيال فى مدينة هون عبر عقود من الزمان وطورتها قراءة ورواية وغناء. فى الذكرى الثمانين كان لي شرف الحضور لاحتفالية المدينة بالواقعة، إذ تجمع سكان مدينة هون وضيوفهم فى الساحة التى شهدت واقعة الشنق. فى نفس المكان أمام النصب التذكاري الذى يحمل اسم الرجال، الذين تدلت اعناقهم مثل عراجين التمر، المثقلة بالخير والنماء، للتدليل على شموخ وكبرياء الفرسان، أعاد الأحفاد تمثيل المشهد، فى عمل “أوبرالي”، عزفت فيه فرقة هون للموسيقى والتراث، من كلمات الشاعر عبدالله زاقوب، وإعداد وألحان الفنان عبدالقادر دبرى، ومشاركة من الشاعر على محمد العربى صحبةَ نخبة من تلاميذ وتلميذات مدرسة هون الابتدائية، وفى صمت مطبق اجلالا للمشهد انطلقت الأصوات الشابة تشدوا:
نصب الجلادون مشانقهم
تسعة عشر شهيدا
فى يوم واحد، ساعة عصر
يا زمن الاوغاد السفلة
يا زمن الأعداء القتلة
يا للغدر
ابنة عثمان، من غرفتها
تطل قبالة ساحتها
تشدو موالا
تغزل شالا، راية
تهتف باناشيد النصر
تغلى كالمرجل كهياج البحر
تصرخ، تهتف، تهدر، كالإعصار
فى وجه الريح/ بوجه العادى
خرابين.. خرابين يا وطن
مافيك والى، وناسك جوالى
والبعض فى المشنقة والقتالي.
* هذا التحقيق الصحفى سبق نشره، علي صفحات جريدة العرب الدولية، وصفحات ليبيا المستقبل. ونعيد نشره بمناسبة انعقاد الدورة الثالثة والعشرين لمهرجان الخريف السياحى الدولي لمدينة هون.