(وادي العنز)¹

(وادي العنز)¹

قصة قصيرة : عبدالرحمن جماعة

سائق التاكسي: أين تريد؟

عمَّار: وادي العنز.

سائق التاكسي: وادي العنز؟! وماذا ستفعل في وادي العنز؟!

وهل هناك من يذهب إلى وادي العنز؟!

إلتزم عمار الصمت، أحسَّ السائق بحشريته الزائدة، وإقحام أنفه فيما لا يعنيه!.

وادي العنز صحراء ممتدة الأطراف تبدأ من جنوب مدينة سبها، وتنتهي حيث وضع الغراب أفراخه، لكن تسميته وادياً لم تكن سوى إفراط في المجاز، لأنه – والحق يقال – لا علاقة له بهذا الاسم، ولا صلة قرابة تربطه بأي جبل، ولم يسبق أن زاره السيل، على الأقل في الألفية السابقة.

مجرد كثبان رملية تتلاعب بها الرمال، ونخيل يابسٍ، غارت عنه المياه، فمات وهو يحتضن حشفه. لا أحد يزوره، ولا أحد يسكنه، لا ينبت فيه زرع، ولا يمتلئ منه ضرع، لا تقصده الدواب، ولا تأتيه الهوام، ولا تستأنس فيه الوحوش!

لكن بعضهم يتسلل إليه ليلاً لاحتساء (أدوار)² من (البوخة)³، بعيداً عن أعين الرقباء.

أما أن يزوره أحدهم في رابعة النهار، وفي عز القائلة، فهذا ما لم يحدث من قبل، وهذا ما يفسر اندهاش السائق وتعجبه!.

ركن السائق سيارته عند نهاية الطريق وبداية سلسلة الرمال، نزل عمار، توغل قليلاً بين الكثبان حتى اختفى تماماً، لكنها لم تكن مسافة كافية لإخفاء صوته!.

تبعه السائق بدافع الفضول، تقدم بضع خطوات، لم يتمكن من رؤية أي شيء، أرهف سمعه لكنه لم يسمع أي صوت. وقبل أن يستدير ليعود لمركبته، سمع صراخ عمار!.

انطلق السائق مسرعاً، ثم تباطأ قليلاً، يدفعه الخوف على عمار، ويُثنيه الخوف على نفسه، تسلق كثيباً وهو يحبو، رأي عماراً من بعيد، لم يكن معه أحد، كان لوحده جاثياً على ركبتيه، يكتح⁴ التراب ويصرخ بأعلى صوته، يسبُّ ويشتم ويلعن، يضرب الأرض بيديه ثم يعضُّ عليهما، يبكي تارة، ويضحك تارة، ينتقل من الضحك إلى البكاء، ومن البكاء إلى الضحك في لمح البصر.

تيبس السائق في مكانه مندهشاً مصدوماً، تضارب في عقله قرار التقدم مع قرار التراجع، هل تلبَّسه جنيٌّ، أم أنه يُمارس طقوساً سحرية؟! هل عمار بحاجة إلى نجدة، أم هو بحاجة إلى خلوة؟!

وفي هذه الأثناء هدأ عمار، واستلقى على ظهره كالمستريح من عمل مرهق، أو كالذي ألقى أثقالاً عن كاهله، أو كغريقٍ لفظته الأمواج على رمال الشاطئ، بعد أن أوشك على الموت، يكاد يُحلق في السماء من شدة الفرح، لولا جسمه المنهك!. اطمئن السائق وتراجع.

عاد عمار بغير الوجه الذي ذهب به، وجهٌ متهلل، وعينان ضاحكتان، ابتسامته تشق وجهه من الأُذن إلى الأُذن، تبدو عليه علامات الفرح والسعادة، يمتلئ صدره سكينةً طمأنينة.

دارت عجلة السيارة، ودارت معها أسئلة كثيرة تتزاحم في ذهن السائق، يدفعها الفضول، ويقمعها لسانه الخجول. لكن الفضول انتصر في هذه الجولة، ركن السائق سيارته قبل أن يبتعد عن المكان، إلتفت إلى عمار، وقال: بالله عليك أخبرني، ما الذي فعلته؟! قال عمار: هذا أنجح وأنجع وأنفع علاج على الإطلاق. وهنا لمعت في عيني السائق رغبة شديدة في أن يجرِّب.

وقبل أن يتكلم بادره عمار: يُمكنك أن تجرب. نزل السائق على الفور، غاصت قدماه في الرمال الناعمة، ابتلعته الكثبان، جثا على ركبتيه وأطلق عقيرته بالصراخ والسبِّ والشتم واللعن، تماماً كما فعل عمار، حذو القذة بالقذة، لكنه كان يذكر أسماء أشخاص يسبهم ويلعنهم، تردد اسم امرأة كثيراً، نالت الحظ الأوفر من الشتم واللعن، بل إنه بصق على وجهها عدة مرات، تبين فيما بعد أنها زوجته!. عاد السائق لمركبته خفيفاً نشيطاً، أحسَّ وكأنه يمشي على السحاب.

من شدة فرحه وسعادته رفض أن يأخذ أجرة التاكسي، بل قال لعمار: هذا رقم هاتفي، وكلما أردتَ المجيء اتصل بي، ولن آخذ منك أجرة!.

————————– 1- وادي العنز: تسمية محلية، وهو امتداد لوادي الآجال الذي يبدأ من إلتقاء حدود النيجر، ليبيا، الجزائر، ويمتد إلى مسافة 100 كم في اتجاه الجفرة.

2- الدور: كأس الخمر (عامية)، سُميت بذلك لدورانها بين الندماء، قال المعري: إِذا دارَتِ الكَأسُ في دارِهِم … فَقَد رَحَلَ الدِّينُ عَن دارِهِم.

3- البوخة: شراب ليبي، يمر بعمليتي تخمير ثم تقطير لاستخلاص الكحول، وهو أقرب إلى العَرَق في بلاد الشام والعراق. 4- يكتح: ينثر الرمال أو الحصى بيديه، ويقال: “كتحت الريحُ التراب” أي: أثارته.

وهي فصيحة. * القصة واقعية، باستثناء بعض البهارات. * هذا النوع من العلاج حقيقي وفعال، وقد طوره (أوشو) تحت اسم: (osho dynamic meditation)

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :