للقاص عمر بن ناصر حبيب
في قاع الرمال دفنوه .. وانتشروا في البيداء الهادرة، يقيمون الولائم فرحين ..وبينما كان ينصب فخاخه للطيور البرية، بالقرب من رقعة مليئة بأكوام القمامة، يحيطها بقايا من ( الملخ ) المتناثرة؛ ظلت عيناه مشدوهتين تراقب مشهداً آخر، وراء الكثبان الرملية الموحشة، بدت ألوانه وظلاله ترتجف رقصاً وزهواً !
نساء يجلسن على مفارش من نطوع، وقد جعلن من دغل النخيل الأخضر، والأحراش الباهتة التي تطوق ( دنادنها )
خباءً ساترًا وارف الظل، ناعمًا كُسّرِت فيه حواف السعف المذببة، تتدلى من حزم جذوعها قِرَبُ الماء البارد .. وبين فينة وأخرى، تتقابل منهن امرأتان؛ واحدة تمسك أُذنيّ القِدر الكبيرة المستعرة فوق أحجارٍ جاسئة متغضنة، وثانية تقبض بيدها على ساق المغرف الخشبي؛ ليجول في جوف تلك القِدر مدوّرّا مافيها من إدام ..
الصبية منبطحون على وهدات السفوح الطرية العارية، تتمدد من أجسادهم أقدامٌ غائصة في أخاديد الرمال الشهية، يتبادلون ألوانّا من البوح المكشوف، من حكايا الرغبات المكبوتة، والأحاجي المُلغّزة، ونكت الاشتهاء الدفين .. فيما الصبايا مائسات يتراقص حولهم كالفراشات التائهة، يسترقن النظر والأسماع، ويتربصن بالكلمات الهاربة بحياءٍ عذب، وابتسامات مترددة تبرز غضون شفاههن المضمومة، وهمسٌ مخبوء تفوح منه رائحة الدعابة المنعشة اللذيذة، وينطّطن بخفة الغزالات الهائمات وراء آثار الحوافر الحمراء الصغيرة السارحة، كلما توارت بعيدّا عن لواحظهن، أو تلقّين صرخات الجدات والأمهات الغاضبات، يستجدين عونّا للمواقد الخابية .
وعندما فاحت مشاعل القدور اللاهبة اللاهثة بطيب إدامها وطعامها، أومأ أحد الصبية إلى مديته، يستطلع بدن القرص العجيني الواسع، الذي مافتئ يستحم متغنجًا بدلال وسط جلبة الجمر الوامض، حتى إذا استشعر اشتداده؛ صرخ برصانة المنتصر : ” إنه خبز الجمر ياسادة، وما أدراك ما الجمر ” !
فالتفّ الصغار حول البساط الأحمر يراقبون الوليمة الساحرة، ويصفّقون مردّدين مع عمهم ( مسعود الرقّاي ) الذي أخذ يصدح بأُهزوجته المعروفة، ابتهاجّا باعتلائه قلب النخلة العالية، وحِدّة منجله اللامع في بتر العراجين العامرة بِلُمى الرطب، وعذارى ( القراوات ) المهملة:
” سَمّوني زرزور، في النخلة ايحَوْحُوا عليّ … سمّوني …”
وحين لاحظ الصبي بدء خبو الجمر وشحوبه؛ أخرج المغمور اليابس من الرماد الذي كان يلحس بعضًا من جسده، وطفق يلامس بيده المكتنزة نتوءات قرص الخبز الوافر المُصهّد بالجمر، ثم ترجّل به واقفّا، ونادى قومه:
– الآن، أمسى خبز الجمر جاهزًا، فلنحتفل بالوليمة المنتظرة، أيها الأحباب .
اختلف المحتفلون؛ أرادَ بعضهم حصته من الخبز حافيّا، وبعضهم أرادوه فُتاتّا رديمّا في إدامه، وآخرون قالوا بغمسه متماسكّا قرصّا أحمرَ … لكن الشيخ (صابر العدناني ) وبعضّا من أهله، أصرّوا أن ينسحبوا من تلك البؤرة الملتهبة، مثل الشهود مغادرين المشهد، فلقوا شيئًا من الملامة الطافحة بالاستهجان .. وبينما هم في جدالهم هذا، حبا طفل فطيم نحوهم، وامتدت راحته الغضة العجينية، تتمسك بحافة الرديم؛ فارتد البنان الناعم شائطًا، وسكن المسكين راغيّا، …، …، …،!
شرعت الدموع تغمر وجنتيه المتوردتين، حتى إذا استطعم شيئًا من ملحها؛ واستشعر جفاف حلقه، زحف إلى أمه مسرع الحبو وسكن حجرها، يستجديها ببراءة زلال ثديها الحاني، بعد أن أهمله الآخرون!
وفجأةً، خرج لهم الدفين شبحًا عاريّا، متحررّا من قيده الأبيض، يشق بطن كثيب رمليّ قريب، ينتصب أمامهم مكتوف الذراعين، يُهَمْهِم ساخرًا بكلمات مبهمة؛ فاستحالت تلك البؤرة الملتهبة أشلاءً باكية من الجمر المتطاير، تعلو أقدامًا حاسرة، راكضة، مذعورة، نحو خلاء مجهول .. تاركين وراءهم بقايا خبزٍ أحمر، ومنجلّا يخاصر جسدّا مقطوعّا، وإبريق شاي يَغَطُّ بعبرة من أوجاع وأنين، وحنينٍ جارف إلى الانطفاء …