الوجه بين تجلّيات الرّوح والجسد خواطر حول المجموعة القصصية  الوجه والكارما للكاتبة مديحة جمال

الوجه بين تجلّيات الرّوح والجسد خواطر حول المجموعة القصصية  الوجه والكارما للكاتبة مديحة جمال

أحمد بن إبراهيم

الأدب  الحديث عامة هو صورة من صور الحرية المسؤولة. وهذه المسؤولية هي نتاج وعي وإدراك وفهم للواقع وبُناه الأيديولوجية المختلفة. والكاتب في معايشته للواقع ومحاولة تشكيله من جديد سيعتمد على حدسه وثقافته والأفكار التي تأثّر بها ليقدمها ” مجازيا ” في محاولة للتأثير في القارئ . إنها لحظة المكاشفة الشعرية.

 لسنا هنا ومن خلال هذه القراءة البسيطة لهذه المجموعة القصصية أن نقدّم عرضا لمفهوم البنية العميقة والبنية السطحية للنص. فقط هي قراءة مفتوحة لا تلتزم بأي منهجية مسبقة. والهدف من هذا الاختيار هو محاولة التعريف دون ” تعقيد ” بهذا المنجز الإبداعي قدر المستطاع..

 جاءت هذه المجموعة القصصية ” الوجه والكارما –  وهي الأولى للكاتبة المبدعة مديحة جمال ” في مائة وثماني عشرة صفحة. في طبعتها الأولى 2024 عن دار البياتي للنشر والتوزيع  وتحتوي على خمسة عشر قصة قصيرة وكانت صورة  الغلاف والرسوم الداخلية  بريشة الفنان التشكيلي العراقي سمير مجيد البياتي

 الإهداء ..

التصدير  بيت شعري للشابي يقول فيه :

 يا قلب لا تقنع بشوك   اليأس من بين الزهور

فوراء أوجاع الحياة     عذوبة الأمل الجسور

 التقديم كان للشاعرة المبدعة سلوى الرابحي .  تقول :

قصص كتبت بلغة جمَعتْ بين هذيان اللحظة المحمومة وحكمة التجربة. بين جمالية الرؤى وقبح العالم.. قصص تحدثنا عن أوجهنا المتعدّدة. عن الأضداد المتصارعة فينا. عن تأرجحنا بين القبح والجمال. بين الخنوع والرفض. بين غليان أصواتنا الداخلية وهدوء ملامحنا.. بين صورة نريدها لأنفسنا وصور أخرى لنا يرسمها الآخرون.. ”

   تقديم هذه المجموعة انطلق من عنصر فزيائي هو الوجه الذي كان بمثابة التيمة الأساسية في أغلب قصص المجموعة بَدْءا بالعنوان ” الوجه والكارما ” . وقد حُمّل هذا الوجه قضية وجودية أساسية نظّمت على شاكلة إيقاعات مرئية ومسموعة. بل كانت الحرنة المدروسة في مقام  محورا عميقا عُرض بصدق فني للجدل هو-  الحياة / الموت –  ثمّ ثنائية القضاء والقدر / الاختيار . هذه الثنائية  المتحرّكة ماديا ومعنويا لم تحضر في النصوص كأقوال  أو مقولات. بل حضرت في شكل درامي تنوّعت طرق عرضه في تلافيف النصوص. منها ” البورتري ” إلى جانب طغيان المشهدية إلى حدّ تفصيل بعض المشاهد وإمكانية تقطيعها سنمائيا ) أقول هذا باحتراز  (مع الاشارة  إلى أن النزعة الجندرية كانت طاغية في هذه المجموعة والمجال لا يسمح بالتعريج عليها ومناقشتها..)

نعود إلى الوجه في هذا السياق القصصي المتخيّل وقد وزّعت محاوراته على ثلاث محاور أو هي  ” فصول  على شاكلة الرواية ” هم : يا وجهي هل أشبهك   – يا وجهي كم أشبهك  و -وجوه عالقة – وهذه طريقة تجريبية جديدة في تنظيم المتن القصصي المراد منها تحفيز المتلقي بقوة الفعل الدرامي في المتن..

ونقدم تعريف لهذه العبارة الكارما. ”  والكارما تعني العمل أو الفعل. وهي مفهوم أخلاقي في المعتقدات الهندوسية والبوذية واليانية والسيخية والطاوية. وحسب تعريف «ويكيبيديا» «يشير إلى مبدأ السببية حيث النوايا والأفعال الفردية تؤثر على مستقبل الفرد. حسن النية والعمل الخير يسهم في إيجاد الكارما الجيدة والسعادة في المستقبل، النية السيئة والفعل السيئ يسهم في إيجاد الكارما السيئة والمعاناة في المستقبل

 ما يشي به العنوان هو صورة الوجه وقيمة حضوره بين الأنا والآخر.  هذا في السياق العام للنصوص. ولكن في عمق هذا الوجه تكمن عوالم كثيرة مختلفة ومتشعّبة ملغزة بعض الشيء. غالبا حين نلتقي بهذا الآخر ” في الواقع طبعا ” تتحرّك نوازعنا ذهنيا لنعرف قفاه.. فنبحث عن دلالات واستعارات شتى لنضبط الصورة النهائية أو هي المجازية لهذا الآخر.. فالوجه يبدو هنا هو الواجهة الأولى في علاقاتنا الانسانية الرّوحية منها والمادية خاصة في علاقة الرجل بالمرأة. ثم ما يحف بهذه العلاقة من ثنائيات منها  الشك / اليقين.. الخير / الشر في مفهومه الشامل. وكأننا نستنطق ملامح الوجه وتفاصيله كمحاولة لفهم أسرار الآخر. وكأنّ الكاتبة هُنا ومن خلال قصصها ترى في هذا التأمّل اختيارا ضروريا لتحديد نوع العلاقة وقد لامست في بعض المشاهد المدهشة والمشكّلة من عنصري التجسيم والتجسيد مَا يسمى فنيا بالواقعية السحرية.

 ليس من السهل علينا التعرض بالدرس لكل قصص المجموعة. سنكتفي بقصتين هما ” أحملر شفاه ” و ” الخرافة

 الفصل الأوّل. يا وجهي هل أشبهكَ. . القصة الأولى – أحمر شفاه. ص 17.

   يبدأهذا النص بخطاب للزوجة موجّه لزوجها ” الحياة التي كانت شريحة لحم وعطر. صارت أصعب من ازالة طلاء الأظفار

  (هذه في النهاية وجهة نظر تفسّر جملة من التعقيدات التي تحكم علاقتنا بالحياة. علاقة الجسد بالروح خاصة. )

  هنا يتدخل الراوي ليؤطر الحوار  فيقول :

كعادته لم يفهم شيئا. وكعادتها واصلت حديثها دون أي اهتمام بذهوله :

أريد أحمر شفاه كي أكتبَ على مرآة الحمّام وصيّتي الأخيرة قبل أن أغطس في البانيو بكل طقوس الحياة

هذه القصة تقدم علاقة متوترة بين زوجين مثقفين وفي الآن نفسه مختلفي الرؤى الفكرية. المرأة تنتصر لغريزتها الأنثوية. والرجل ينتصر لطبيعته المزاجية. وبين الصوتين الداخلي والمعلن تتصاعد وتيرة الحدث لتخلص إلى دعوة للتطهّر من الأوهام والخيالات.

 يقول الراوي : اتجهت إلى الحمّام وكتبت بقلم الكحل على مرآته :

 ” الحياة ليست رواية نقرأها أو نكتبها. الحياة رواية نعيشها ” ونامت في البانيو نومة لا نهائية بينما ظلّ يتابع تعليقات الأصدقاء حول قبعته الرمادية وكومة الروايات المستلقية بعهر ممثلة إباحية على مكتبه

 ما  تحدّث عنه عديد النقاد خاصة منهم الدكتور ” خليل قويعة  ” في بحوثه الجمالية حول الفن التشكيلي والأدب. نادى بقيمة الوعي لدى المتلقي.  ما يميّز هذه النصوص التجريبية الحديثة على مستوى الشكل. هو عنصرالتصوير ” كتابة الصورة ”  كخاصية أسلوبية نجحت في توظيفها.  إن كان من وجهة نظر انطباعية تعلو في بعض المحاولات إلى التجريد. واعطاء صبغة رمزية لتفاصيل الوجه في علاقاته الذهنية بالأشياء. أو تصوير يقترب من السريالية وابراز عنصر الشك كقيمة معنوية. يقول الراوي العليم في ص 18

 ” قرّبت وجهها من المرآة وهي تضع قرطها الذهبي. تمعّنت في ملامحها. قرّرت أن تضيف بعض اللّون والكثافة لحاجبها بقلم بنّي. هكذا اكتملت إطلالتها ولا ينقصها الآن إلا أحمر شفاه. عضّت شفتيها لتكسبها بعض الحمرة

 جميل جدا… سنحاول الوقوف عند هذا المشهد  التخييلي في سبيل قراءته من وجهة نظر مرئية فنية .  بقطع النظر عن تفاصيل الحكاية التي تصور علاقة متوترة بين الزوج والزوجة. سنواصل مع عنصر التصوير وقد عرض هنا كحافز ديناميكي وفي بعض الأحيان جاء كحافز جمالي. يرتفع بجمالية السرد وعذوبته المشهدية. وهذه الطريقة التصويرية هي من خاصيات أسلوب الكاتبة.

هذا المقطع / المشهد  اقتربَ فنيا  من الرسم وكذلك من التصوير السنمائي ” الرسم من خلال حركة القلم . والسينما من حضور الاطار – المرآة – وحجم الوجه وهذا يعطينا اللقطة الكبيرة جدا بلغة السينما. ( G.p).. ثم يتواصل التصوير في أبعاده الرمزية حين تمدّدت في البانيو في نومة غير نهائية. وكأنها دخلت قبرا مفتوحا في رحلة ذهنية جديدة. هذه اللقطة الرمزية  في بعدها الوجودي السمفوني جماليا. . تشي بقدرات الكاتبة البلاغية المعرفية والفنية.

 كما سبق وأشرنا أنه من الصعب أن نبحث في كل نصوص هذه المجموعة الشيّقة لأسباب كثيرة إنما سنحاول استدراج نص آخر لغاية التقاط بعض المشاهد التي تؤكّد خصوصية أسلوب الكاتبة.

 نختم مع نص ” الخُرافة ” ص 31 

( هذا النص التخييلي الرائع المدهش ) دون مبالغة ( رحلة ناجحة في فنّ القصّة القصيرة التي عمادها الصورة المعنوية والحسيّة. كتابة الخبر من خلال الصورة. هذه التقنية جعلت من النص / الحكاية. حقلا فنيا / دلاليا يمكن استغلاله مسرحيا أو سنمائيا لتعدد أساليب التناول من سرد  ووصف ” التصوير ” والحوار.. رحلة بحرية تعانقت فيها الروح بالجسد. الصدق والوفاء. البداية بالنهاية. ما قيمة هذه الحياة في غياب من نحب ؟ سؤال جوهري صوّر باتقان من خلال علاقة الرّوح بالطبيعة حد ملامسة الأسطوري في معناه المتخيّل / العجيب الخارق ) الخارق لمنطق الواقع والعقل (.كانت الغلبة للحلم. الحلم الطفولي.  لبراءة روح الطفولة التي سردت علاقة البنت  بأبيها المتوفّى  وهي في رحلتها ” الحارقة إلى ايطاليا ”  لنتابع المقطع الأوّل من القصة. ص31 – الفصل الأوّل

 كانت الأمواج تتقاذف المركب المكتظ بالأعين الجاحظة في سواد الليل الحالك. تغلّبت نرجس على خوفها بالتحديق في النجمة الأكثر لمعانا في السماء. فلقد كان والدها الحالم دائما. يروي لها قصة حين كانت صغيرة عن أرواح ورود غادرت الحقل وتحوّلت إلى نجوم مضيئة .. ”

  نكتفي بهذا ” العرض البسيط للمجموعة ”  وقد  أردنا أن نوجّه تحية شكر وتبجيل لصاحبته الأستاذة ” مديحة جمال ” وندعو المبدعين من كتاب ونقاد أن يهتموا بهذا الكتاب القصصي الشيّق ” صورة وإيقاعا ” لأنه نص مؤسس حسبَ تقديري.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :