وعودة للذاكرة قبل أن يمحوها النسيان

وعودة للذاكرة قبل أن يمحوها النسيان

غيث سالم

لم يكن على بالي العودة إلى موضوع العلاقات الليبية التشادية في المدى المنظور لأني لا أريد للمتابع الذي قصدته بالمعلومة وخاصة من شباب الدبلوماسيين أن يشعر بالملل ، ولكن بعض التعليقات وخاصة من أصحاب الأحكام المسبقة الذين يعتقدون أن حدود المعرفة وقفت عندهم وهم لا يَقنعون ولا يُقتنعون ، حاول بعضهم الدخول معي في جدال على الخاص إلّا إنني لم أعرهم اهتماما ، ورأيت كتابة هذا المنشور عن. تطور العلاقات بين ليبيا وتشاد عقب عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين فى شهر أكتوبر 1988. هناك قول في تشاد كاد يصبح قاعدة ، وهو أن مفتاح قصر رئاسة الجمهورية في أنجامينا موجود في دار فور ، وأن مسيرة الانطلاق إلى كرسي الرئاسة تبدأ من غرب السودان شرق تشاد ، وهو ماتحقق أكثر من مرة للرئيس حسين هبري ، المرة الوحيدة التي تم الوصول فيها إلى كرسي أنجامينا من الشمال كانت تلك التي وصل بها الرئيس كوكوني واداي عام 1981 بمساعدة القوات الليبية وطرد منها بعد أن فك ارتباطه بهذه القوات وفي خيانة وانسياق لخدعة فرنسية طلب مغادرتها ، وبمغادرتها لم تمض أشهر حتى اهتز الكرسي من تحته ، ووجد نفسه في المنافي على الحدود مرة أخرى .

وعى هبري هذه الحقيقة وعقد اتفاقا في بداية حكمه يوم 1982/06/07 مع سادة الأرض في شرق تشاد وغرب السودان قبائل الزغاوة ، ومنحهم ثلاثة مناصب هامة ومفصلية في الدولة وهي منصب مستشار الأمن الوطني وشغله العقيد إدريس دبي ووزارة الداخلية وتولاها ابن عمه وشقيقه من الأم إبراهيم محمد إتنو ورئاسة الأركان وتولاها العقيد حسن جاموس ، ضم أول وفد سياسي وحزبي زار طرابلس بعد عودة العلاقات بين البلدين ، ضم العقيد دبي كمستشار للأمن الوطني ومفوض لشؤون الأمن بالمكتب السياسي للتنظيم الحاكم الاتحاد الوطني للاستقلال والثورة (U.N.I.R) ، وتمت زيارة طرابلس وسط أجواء شبه متوترة ، بسبب تراجع هبري عن أحد تعهداته للزغاوة إذ عين أحد أبناء قبيلته القرعان المقدم ألّلا فوزا رئيسا للأركان ، وكلف القعيد حسن جاموس بالاستعداد للسفر إلى فرنسا لحضور دورة لإعداد القادة هناك وسط شائعات تقول إن جاموس كان ينقل أسلحة إلى مخازن في الشرق دون علم هبري مما أثار الشك حوله ، وما أشيع عن اتصالات من قبل المعارضة التشادية المقيمة في ليبيا بالعقيد دبي خلال وجوده في طرابلس ضمن الوفد التشادي الزائر ، وسط هذه الأجواء استيقظ سكان أنجامينا صباح يوم الأول من أبريل 1989 وكنت أنا من بينهم على شائعات هي في واقعها أخبار وإن لم يصدر بها بيان رسمي من الحكومة ، تقول بفشل محاولة انقلاب قادها الثالوث الزغاوي المشارك في الحكم وأنه تم القبض على إبراهيم محمد إتنو وزير الداخلية والعقيد حسن جاموس رئيس الأركان السابق وأن العقيد إدريس دبي تمكن من الفرار رفقة (50) عنصرا من رفاقه قاصدا منطقة الحدود الشرقية ، حيث أعلن من هناك تشكيل فصيل الأول من أبريل لإسقاط حكم حسين هبري ، الذي ظل صامتا حتى الأول من مايو 1989

وفي مناسبة الاحتفال بعيد العمال العالمي أعلن أمام حشد من الجماهير عن محاولة دبي ووجه اتهاما صريحا لليبيا بأنها من ورائه وتدعمه بالسلاح وتجند له المقاتلين من التشاديين المقيمين على أرضها ، هذا الدعم الذي ادعاه هبري لم تظهر آثاره طوال عام كامل ، لم يتقدم خلاله دبي خطوة واحدة وكانت قواته بين كر وفر على خط الحدود مع السودان ، لم تتوقف المناوشات ولم تحتل شبرا داخل أراضي تشاد لمدة عام حتى صيف 1990 ، خلال هذا العام وقعت أحداث كبيرة في العالم ، سقط جدار برلين يوم 1989/11/27 وبدأ الاتحاد السوفييتي يتفكك وبرز نظام القطب الواحد ، جمع الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران وقتها الرؤساء الأفارقة في القمة الأفريقية الفرنسية في مدينة لابول الفرنسية أول يونيو 1990 ، وأبلغهم بأن فرنسا لن تستمر في دعمهم ضد إرادة شعوبهم وأن عليهم أن يعتمدوا الديمقراطية التعددية وتداول السلطة ، اعترض هبري على هذا الطرح وقال نحن نلتقى كرؤساء دول نناقش قضايانا المشتركة لا كطلبة لنستمع لمحاضرة عن الديمقراطية ، لدينا عاداتنا وتقاليدنا التي سرنا عليها وسنستمر عليها نأخذ منكم ما يناسبنا ولسنا ملزمين بما لا يناسبنا ، كان هو الطائر الوحيد الذي غرد خارج السرب ، فكان لا بد من إسكاته.

إدريس دبي كان قد اشترك في دورة مظليين في فرنسا قبل سنوات وكان معلمه فيها قد وصل إلى رتبة جنرال ويتولى منصب رئيس الأركان بقصر الإليزيه ، كلف أحد أعضاء السفارة الفرنسية في الخرطوم بلقاء دبي وعرض عليه رغبة فرنسا في دعمه ومساعدته على هزيمة هبري مقابل تعهده بتطبيق التعددية وتداول السلطة وتحديد فترات الرئاسة بفترتين ، وافق على هذه الشروط وتعهد كتابيا بتنفيذها إلّا أنه رأى لابد من التعاون مع ليبيا التي استقبلته وسمحت له بالتمركز في مزرعة ساق النعام في منطقة الجنينة غرب السودان التابعة لسلطات الأمن الليبية ، وسمحت له بفتح مكاتب التجنيد بين أفراد الجالية التشادية المقيمة في ليبيا ، وبدأ عملياته العسكرية في أول نوفمبر 1990، ضد قوات هبري التي حرمتها القوات الفرنسية من الدعم الجوي وأوقفت تزويدها بالسلاح ، ففقد قادتها السيطرة عليها وهام الجنود على وجوههم لدرجة أن اللافوزا رئيس أركان هبري وجد تائها في الصحراء يكاد يموت عطشا ، وفر هبري فجر يوم 1990/12/01 إلى الكاميرون ومنها إلى السنغال .

وتولت أمر العاصمة القوات الفرنسية وسمحت لقوات دبي بالدخول وأقام في معسكر داخل العاصمة لا يبرحه لمدة أسبوع تولت خلاله السفارة الفرنسية تحت حماية قواتها وبالتعاون مع السفارة الأمريكية ترتيب بعض الأمور قبل أن تسمح له بإعلان تشكيل حكومته ومباشرة عهده الجديد وكما لم يفِ هبري بعهده مع دبي فإن دبي لم يفِ بعهده مع فرنسا وتراجع عن تعهداته معها فأعطت الضوء الأخضر للمعارضة المسلحة ضد نظامه التي انتهت بقتله العام الماضي. أما ما إذا تعهد دبي لليبيا بشيء مقابل دعمها له فهذا لا أستطيع نفيه أو تأكيده فقد كان لقاؤه سريا بالمرحوم العقيد معمر القذافي بحضور المرحوم مسعود عبدالحفيظ فقط وفي مدينة شحات بعيدا عن الأضواء ، لم تتناوله وسائل إعلام محلية أو عالمية ، سبق اللقاء الذي رتبه الملك الحسن في الرباط يوم 1990/08/27 وجمع العقيد القذافي وهبري ولم يسفر عن شيء كما ذكرت في منشوري السابق وذهبت ليبيا بعده منفردة إلى محكمة العدل الدولية التي فصلت في النزاع الحدودي بعودة قطاع أوزو إلى تشاد الذي تم تنفيذا للحكم وليس نتيجة استفتاء للسكان أجرته الأمم المتحدة ، والفرق كبير بين الاثنين.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :