الحاجة خديجة ” ستينية تبدع في صنع السعفيات”

الحاجة خديجة ” ستينية تبدع في صنع السعفيات”

فسانيا/ عبد المنعم الجهيمي.

  في قرية ادليم الوادعة كانت الحاجة خديجة تجلس وسط أحد أجنحة مهرجان السلام الذي يهتم بتعزيز الصناعات التقليدية، للوهلة الأولى ستتنبه لهن وهن يجلسن إلى جانب بعضهن منهمكات في العمل، وهو عمل يبدو للناظر إليه بسيطا أو نوع من التسلية وتمضية الوقت لمجموعة من العجائز في قرية صغيرة، ولكنه في نظرهن عمل عظيم ونمط حياة وموروث ينجزن أدواته بكل محبة وشغف.

الحاجة خديجة صانعة المقتنيات التقليدية من بلدة ادليم إحدى محلات مرزق، كانت بين صديقاتها تجلس بسعادة يشعر بها الناظر إليها، تمسك بيديها بأدوات صنع الأطباق الشعبية، وتضع في فمها قطعا من السعف التي ستلفها في قطعتها، وفي نفس الوقت تواصل حديثها مع جاراتها تسأل وتجيب وتنبه وترشد وتسمع منهن وتتفاعل، ولعل هذا من الأمور العادية عند النساء عامة، فهي تستطيع القيام بأكثر من مهة في ذات الوقت.

كانت بشاشتها وبساطة حديثها دافعا لنتحاور معها ونسمع قصتها وحكاياتها، ويبدو أنها كانت ترغب في أن تروي عن نفسها وأسرتها، كان أول حديثها معنا عن تعلمها خبز التنور، تقول إنها كانت في العاشرة أو الحادية عشر من عمرها حين أعدت أول تنور لها، تقول كنت لوحدي في البيت حين كانت أمي ووالدي في المزارع، وجازفت بإشعال التنور وعجن الدقيق ولكن عجين طفلة صغيرة ليس بذات جودة عجين أمي، ولكني بحماس الطفلة ورغبتي في أن أفعل ما تفعله النساء الكبيرات غامرت بحميْ التنور لأول مرة في العاشرة من عمري.

بعد الظهيرة وعند عودة أهلي تفاجأت أمي بما أنجزته، ووبختني كثيرا، لم يعجبها الخبز الذي حميته، ولم تعجبها طريقة إشعال التنور، كانت تقف وسط المنزل تضرب يدها متحسرة على الدقيق الذي تعتقد أنني أهدرته، وتتساءل كيف سنرميه أو ما مصيره، لكن لوالدي رأي آخر، وقف عند مدخل وسط المنزل وربَتَ على كتفي وكأنه يحييني، وقال لوالدتي إذا لم تريدي تناول خبزها ضعيه لي في قدر وأنا أتناوله، ما أعدّته ابنتي سأتناوله، وأكمل وصيته لأمي بأن تشجعني حتى أتعلم أعمال المنزل بداية من التنور.

ولعل هذا المشهد الذي ترويه الحاجة خديجة يتشابه مع الكثيرات من الفتيات الصغيرات في ذلك الزمن البعيد، فالفتاة الصغيرة غالبا ما تبادر هي بتعلم خبز التنور، في حين تكون والدتها غير مقتنعة بأن تبدأ الحميَ في هذا العمر الصغير، ولكن إعداد التنور وحميه يعدان علامة على بلوغ الفتاة مرتبة أكثر مسؤولية، فإذا تمكنت الصغيرة من تقدير كمية الدقيق والماء والحامض، وتقدير وقت العجن وكمية العجين، وإشعال النيران والتحكم فيها والتعامل مع حرارة التنور، ثم وضع الخبز وتقدير وقت إخراجه وشكله وترتيبه، كل هذه المهمات المتداخلة يعد إتقان الفتاة الصغيرة لها أمرا دافعا للنظر إليها كفتاة راشدة يمكن أن تقيم بيتا.

تقول خديجة بعد ذلك صرت أقوم بكل الأعمال المنوطة بي مع أمي وأخواتي، ولك أن تتخيل ما هي أعمال البيت في قرية صغيرة قبل ستين عاما، كنت أعد الطعام في القدر المصنوع من الطفل ونستعمل الرحى، وأعد العصيدة والمقطّع، كما تعلمت الذهاب وإنجاز أعمال المزرعة، ولعل إتقاني لهذه الأعمال عجل بزواجي في فترة مبكرة جدا، فقد تزوجت في الثالثة عشر من عمري.

هنا تبتسم خديجة وكأنها تستذكر تلك الأيام، تقول كان زفافي في سيارة، كانت تلك ميزة لم تحظَ بها كل الفتيات في ذلك الوقت لندرة وجود السيارات، وكنت أيضا من القليلات اللواتي حظين بقطع ذهب في زفافها، فالعادة وبحسب الأوضاع الاقتصادية عامة كانت تقتضي أن تزف العروس في فجرة، ولكن زوجي فضل أن يأتي بقطعتين من الذهب إضافة للفضة، وهو ما عزز عندي المزيد من الثقة والتميز.

ما ترويه الحاجة كان سمة تلك الفترة ففي ستينات وحتى منتصف السبعينات من القرن الماضي، كانت الفضة الأكثر شيوعا في الأفراح، حتى بعد بدء بوادر شيء من الرخاء الاقتصادي ولكن ظلت الفضة هي الأكثر طلبا، وتدريجيا بدأت تتراجع أمام الذهب، الذي صار الأكثر طلبا وشيوعا في الأفراح والمناسبات، خاصة أنه كان بأسعار معقولة تتناسب مع دخل فئات مهمة من المجتمعات المحلية.

حتى اليوم لاتزال سبل الحياة في ادليم أو ظروف الحياة ملائمة لهؤلاء النسوة، فهن تقريبا يعشن ذات التفاصيل التي عشنها في طفولتهن، فهن يذهبن لمزارع القرية ويقصصن الزرب ويقمن بأعمال المزرعة، ويظفرن السعفيات ويصبغنها، ويلبسن ذات الفضة التي وقع زفافهن بها، وأغلب تنقلاتهن في القرية يقمن بها مشيا على الأقدام، ولعل هذا يفسر صحتهن الجيدة عامة، فهن في هذا العمل يقمن بأعمال تعتمد كثيرا على القوة العضلية والتركيز والنظر لساعات طويلة وإنجاز سعفيات بمناظر وزخارف مرتبة بشكل دقيق.

عاشت خديجة جل حياتها في ادليم، تقول إنها لم تخرج إلا لمدينة سبها التي استقرت فيها مع زوجها مدة عشر سنوات، قبل أن يقرر زوجها العودة لادليم ليبقى قريبا من بقية أهله. تتحدث عنه بود وحنين للذكريات معه، فقد توفي قبل عامين، تشعر الحاجّة ناحيته بالكثير من الامتنان، تقول إنه رباها بأن علمها الكثير من المهارات التي لم يسعفها الوقت لتتعلمها في بيت أهلها، كما لم يشتكِها يوما ولم ينقص من قدرها ويساعدها قدر استطاعته.

في هذه السنوات تعتقد الحاجة خديجة أنها أكملت الكثير من مهماتها فقد زوجت كل أبنائها وبناتها، ويسكنون في منازل مستقلة حول منزلها، وتسعد بتجمع أبنائها وأحفادها حولها، وهي أكثر سعادة بأنها علمت بناتها حمي التنور وظفر السعف وإعداد الكثير من الأكلات الشعبية التقليدية، وصارت تشارك في العديد من المهرجانات والمعارض التراثية، وصار عملها يدر عليها دخلا جيدا، يكفيها الحاجة ويعزز ويجدد ثقتها بنفسها وبعملها الذي تمارسه بكل محبة وشغف وود.

لعل الحاجة خديجة حالة مثالية للكثير من العجائز في قرانا الحبيبة بالجنوب، بساطةً وخلقًا وإتقانًا للعمل، فأغلبهن لا يركنّ للدعة والبقاء دون عمل، بل يمارسن أعمالهن التي تعودنها منذ صباهن، ويساعدهن في ذلك البيئة المحيطة بهن ورغبة الجميع في استخدام ما ينتجنه، وهو ما ساهم في ظهور أجيال جديدة من البنات القرويات الراغبات في التعلم وإكمال مشوار أمهاتهن وجداتهن، وهنا يأتي دور الجهات الحكومية المعنية بدعم الصناعات التقليدية أولا من باب أنها تدر دخلا وتفتح بيوتا، ومن باب أنها أحد وسائل تعزيز السياحة الداخلية والخارجية.

نترك الحاجة خديجة مع صديقاتها وقد تحول حديثهن عن الصبغ ونقوش المراوح السعفية والفرق بين نقوش خط مرزق ونقوش خط القطرون ونقوش خط سبها وأوباري. حديث شيق لا يمله من يستمع إليه بلهجتهن البسيطة القريبة للنفس.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :