تَنّوَه 

تَنّوَه 

مايشبه ترسب التجارب والمعرفة  

سعاد سالم

soadsalem.aut@gmail.com

مش في بابه

سؤال الأولويات أكبر من تصورنا للترتيب ،1 و2 و 3 و ……. ، إنما هو سؤال يسمح للأرقام  أن تخطو معا ، وأن كلاٌ منها يلد مايشاء من متواليات عددية، وأحفاد عددية إذا أحسنت التشبيه.

في 2016 وضمن برنامج منظمة On File، حضرت أمسية تجمع الصحفيين الهولنديين مع الصحفيين من الحاصلين على إقامات  اللجوء، أو من خلفيات مهاجرة،وذلك لفتح نقاشات حول الكتابة وتوسيع مساحة التحرك للقادمين الجدد في الوسط الهولندي، ومن ضمن المشاركين كانت نفيس، رئيسة ومؤسسة منظمة Granat ,وتعني رمانة، ثم احتد النقاش فجأة، وعلا وجه نفيس الغضب وأخذ بعض الصحفيين الهولندي بالقرب مني في الانفعال و خشت بعضها باللغة الهولندية ولم أفهم إلا العنوان الرئيسي لهذا الاحتداد، أن نفيس ترى أن الوسط الصحفي الهولندي غير داعم ويتسم بالشللية، وأنه يتعالى على الأجانب، عنوان طويل صح؟ ولكن لم أنس أبدا، توحش وجه نفيس كما تفعل القطط في وضعية الخطر، كان تحت كل ذاك الغضب، ألمً جمّ! أعرفه تماما.

نفيس: شاعرة هولندية من أصل إيراني، متزوجة من هولندي وتقيم في هولندا منذ زمن طويل.

في التلفزيون الهولندي تكثر البرامج الحوارية كسائر الدنيا في الثقافة والفنون، وإن احترق العالم حولهم أو الاستديو المجاور، مما يسمح برؤية الاسترخاء الذي تتسم به حياة الناس، فلا شيء يوقف باقي الأشياء ، مهما ارتفعت درجة خطورته، أعني لايمكن أن يقول أحدهم قتلت المافيا الصحفي الاستقصائي، دعونا نصرخ ونبكي ومش في بابه اقامة أمسية شعرية، او مهرجان موسيقي، المافيا تسيطر على أمستردام ، ذلك لأن النظام الذي أسس الأراضي المنخفضة، أسسها على الأولويات، وأن لكل أولوية أولويات، وبالضرورة الأولويات هى مشاريع، فكل بيت أو ويب سايت،أو مؤسسة، ثمة مشروع قائم وراءها، لذا لاتتعطل هذه البنى القائمة بتعطل أحدها لأن هذه البنى سلسلة من المشاريع التي تدعم وتنقد وتنفذ كل ما يتعلق بها بشكل منفصل وقطعي عن الباقي، لهذا الهولنديون وكانعكاس للنظام لا يخلطون الأمور،ولا المشاعر، ومتخلصين تماما من هذا الذي نسميه فى لغوتنا الحكيمة، يخلط شعبان في رمضان، أي ربط شيئين لا يرتبطان، وهو في رأيي مايعطل التأسيس في ليبيا. ولكن سيبدو لكم أيضا أنني أخلط شعبان برمضان، إذ ماعلاقة نفيس والصحفيين بالبرامج الثقافية والمافيا، وبنا وبليبيا؟

قبل أن أجيبكم سألت نفسي، لماذا يستفزني ،و يشعرني بالاحباط كلما تابعت أخبار الثقافة في ليبيا وعن المحاضرات والندوات والأمسيات، وحتى البوستز على فيسبوك الليبي، لماذا أحس بأننا كشعب نغرق في النفايات الفكرية والتي تغلف على أنها معرفة وعلوم، لماذا أشعر أنه مش في بابه كل ما تفعله النخبة الثقافية وأنها لا تختلف في الحقيقة عن النخبة السياسية، ولماذا أرى بوضوح أن هذه النخبة تعيش في جلباب أبيها، بالتركيز على المجد الشخصي، وأنها وهى تمضي قدما في الكتابة والنشر وتلقي التهاني والمديح وحتى الجوائز لا أرى لها مشروعا، لا يوجد ملمح المسؤولية الذي ولابد أن يوازي مسار المعرفة، ولابد أن يتكئ على تطبيق المعرفة وترسيخها كسلوك، وأسلوب حياة.

ليبيا مش تونس والله مصر والله هولندا

يقال أن جذور مفهوم الأولويات ترجع إلى الحاجة لتحديد ما يجب التركيز عليه في ظل محدودية الموارد. ولكن ماهى هذه الموارد؟ إنها و في رأيي هى كل ما نحتاج إلى تحديده ليمكن فهم معضلة الكصبرة الي ندوروا فيها كلنا، اعتقد أن القصور الواضح في تحديد الأولويات بشكل عام كان يتجاهل وبشكل تام البشر الذين يسكنون هذه الرقعة الجغرافية، قصور معرفي أدى لأن يكون الليبيون ليسوا على سلم أولويات أي مؤسسة أو منظومة بما فيها العيلة، هذا المورد (الانسان الليبي، إناثا ثم ذكورا)الذي تم تجاهله خلال حقب طويلة من الاستبداد، ليس فقط الاستبداد السياسي بل الاجتماعي والذي غذى سقوطه من حسابات السياسيين ويللحسرة من حسابات المثقفين(واعني هنا الاصطلاح العام للمفردة وليس الدقيق)، الأمر الذي أشرت إليه في نوع وماهية النشاطات الثقافية، والعنوان الذي يجمعها ومالهدف الذي يتم التركيز عليه، كل هذه التفاصيل تعطي تعريفا واضحا للأولويات والتي وإن اختلفت عناوينها لابد وأن يجمعها مشروع واحد، وهو كيف نلم مانزع من انسان هذه البلاد، ونوصله به، فكل يرى حينما تنفنح بصيرته شخصا آخر غير الذي يقولون أنه أنا ، وأنتِ، وأنتَ، نحن غرباء عن أنفسنا فكيف لا نكون غرباء عن بعضنا، ولكن أليس المثقفة/ المثقف هو أيضا من هذه البيئة؟ نعم ، ولكن إن لم تدرك/ يدرك ذلك، إذا نحن أمام أولوية جديدة نفرز بها من هم النخبة، ولماذا هى أولوية ؟ لأنهم من سيضعون الانسان في هذه البلاد بفضل المعرفة التي يملكونها كأولوية قصوى، إنهم الجراحون الاجتماعيون الذين يتدخلون لإعادة الأوصال المقطعة إلى جسد حطمه النظام الاجتماعي قبل السياسي،وهشم فردانيته،واستعبده،وخصه بالتقريع،والتشويه حتى نسى أنه كان سليما، وراشدا،وعاقلا.

لذا اتابع نقاشات وخلافات ونشاطات النخبة في هولندا بعين الرضا، إنهم يعيشون احتفالهم الخاص،بانسانهم المعافى العاقل والمسئول ، لأنه كان من أولويات البناء ما بعد الحرب العالمية الثانية، الإنسان كان على سلم أولويات مشروع مارشال. ولأن ليبيا بلاد مستعمرة على مر التاريخ، لن تكون أولويات بناءها يماثل ما يتم في بلدان أخرى، إنها حالة تشبه المرض النفسي، أو متلازمة السجين، حالة متفشية تقلل من قيمة الذات وتزيد من الشعور بالعار، والدونية، وصعوبة التكيف مع التغيير، ومحدودية الأفق ،مترجما في شكل سلوك قهري بتكرار افعال ومفردات بعينها، واعتمادها كحل جذري ونهائي، 

في عالم سريع التغير، سنكون معطوبين، لن نجري حين يتطلب الأمر الجري، لاطاقة لدينا على ذلك، لدينا رجل واحدة، ويد واحدة، وعين واحدة ، وهكذا، لهذا وكبداية لابد أن تخرج النشاطات إلى النور، في الساحات العامة، يجب أن يعتاد الناس على لقاء المعرفة( كلمات جديدة)  فميدان الشهداء ليس صحن جامع، ولا تريبونة، إنه مسرح في الهواء الطلق، لمختلف النشاطات الجماعية بما فيها الصلاة والغناء وقراءة الكتب والشعر والأداء المسرحي، وللخطب السياسية للأحزاب، ثم إني اقترح استعادة الميدان اسمه الأول، الاسم المنطقي ( ميدان السراي)،ذلك لأن للأحياء أولوية. واللغة أولوية،  تفهمون قصدي؟

_________ ثم أن هذا، ليس كل شيء!

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :