حين تصبح الغربة خنجرًا في الظهر: سردية الألم والصمود بين التضحية والخذلان

حين تصبح الغربة خنجرًا في الظهر: سردية الألم والصمود بين التضحية والخذلان

  • سلمى عداس

في لحظة من الحياة، نُضطر إلى الرحيل، لا رحيل الهارب، بل رحيل الباحث، المجاهد، الحالم بوطن بديل يحتضن ما لم يعد الوطن الأصلي قادرًا على احتوائه. نغادر بقلوب مرهقة وأرواح مثقلة بالأسئلة. نغادر ومعنا صندوق صغير من الأمنيات، وعدة ذكريات، وبعض الوجوه التي نخشى أن تنطفئ في الذاكرة.

لكن الغربة ليست كما تُروى في قصص المسافرين، ليست تلك النزهة التي تتعدد فيها الوجوه والألوان واللهجات، الغربة الحقيقية تبدأ حين تصطدم التضحية بالخيانة، حين يتحول أقرب الناس إلى غرباء، وحين تُقدَّم المحبة بإخلاص، فتُقابَل بالجحود.

الغربة امتحان للنية، اختبار للإيمان، ومرآة للقلب.

قد تضحي بوقتك، بصحتك، بأحلامك من أجل من تحب، تشاركهم الفرصة، والمأوى، والكسرة والفرحة، تحاول أن تصنع دفئًا مشتركًا، مساحة تحمي الجميع من برد الغربة ووحشتها، فإذا بهم يطعنونك بخناجر باردة، لا لأنك أخطأت، بل لأن نقاءك أثارهم، ولأن حضورك المضيء يفضح ظلامهم.

كم مرة قلت في سرّك: “كنت أظنه صديقي”؟ كم مرة منحت الفرصة الثانية والثالثة بدافع الحب، لتكتشف أنك كنت الوحيد الذي يحارب؟

كم مرة سكبت الدمع بصمت؟ لأن من خذلك لا يستحق حتى أن يسمع صوت حزنك؟

الغدر في الغربة مؤلم، لأنه لا يطعنك في ظهرك فحسب، بل ينسف ما كنت تبنيه على مهل.

الخذلان في الغربة مُرّ، لأنه لا يسقطك وحدك، بل يسقط جزءًا من ثقتك في الحياة.

لكن، ماذا بعد؟

هل نستسلم؟ هل نعيش على فتات الألم؟

هل نُعيد اختزال أنفسنا لنرضي من لا يستحق؟

أبدًا.

هنا تبدأ المرحلة الأصعب، والأجمل: مرحلة الترميم.

أن تجمع شتاتك، وتنهض، وأنت تعرف جيدًا من الذي يستحق، ومن الذي لم يكن يومًا سوى عابر مؤذٍ في محطة الغربة. أن تقرر أن كرامتك خط أحمر، وأن الصمت في وجه الجارح ليس ضعفًا بل علوًّا.

أنت لست ما قاله عنك من خانك.

أنت لست ما فعله بك من استغلك.

أنت ما نجا، ما نهض، ما واصل رغم الغدر والتعب.

الصمود هنا لا يعني التحجر، بل الوعي.

أن تعي أن الحياة لا تُقاس بعدد الأحضان الزائفة، بل بعدد المرات التي تمسكت فيها بنفسك رغم محاولات التلاعب.

أن تدرك أن اللّين لا يعني الضعف، وأن الطيبة لا تعني القابلية للاستغلال.

الغربة تعلّمك كيف تكون وطنًا لنفسك. كيف تخلق لنفسك بيئةً آمنة، حتى وإن كانت في قلب العاصفة.

تعلّمك كيف تحتفظ بجذورك، حتى لو اجتثّوك من أرضك.

كيف تعود إلى ذاتك كلما حاول الآخرون تشويهك.

وفي خضم كل هذا الألم، يظهر وجه جديد للحياة

وجه لا يعرفه من عاش دائمًا في الدفء.

وجه الأقوياء، الذين تألموا كثيرًا، لكنهم اختاروا الحب مرة أخرى… ولكن بوعي.

اختاروا أن يكونوا أصدقاء لأنفسهم، قبل أن يمنحوا قلوبهم من جديد.

ولأن الغدر لا يُنسى، لكن يمكن تجاوزه

ولأن الخذلان لا يُشفى منه بسهولة، لكن يمكن أن يتحوّل إلى درع، فأنت لا تُشفى من الغربة تمامًا، لكنك تتعلّم أن تعيش فيها واقفًا، لا منكسرا.

لا تمنح من أسقطك شرف مشاهدة نهوضك.

لا تشرح جراحك لمن كان سببها.

ولا تعتذر عن نجاتك، لمن كان يتمنى لك السقوط.

امضِ… وكن صلبًا.

كل خيبة نجوت منها، تصنع منك إنسانًا لا يُهزم بسهولة.

وكل من خذلك، كان معلمًا، وإن لم يدرك ذلك.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :