- مالك المانع
في ديسمبر من عام 1977، وبعد زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى القدس المحتلة، انطلقت مفاوضات في فندق “ميناهاوس” الشهير بالجيزة، حملت اسمه، وأشعلت جدلاً سياسياً واسعاً استمر حتى يومنا هذا. كانت تلك الخطوة صادمة ومفاجئة للعرب والعالم، إذ جلس قائد عربي إلى طاولة التفاوض مع من كان يوصف حينها بـ”العدو الصهيوني”، في سابقة لم يعرفها التاريخ العربي الحديث.
أتت مفاوضات ميناهاوس كأولى الخطوات العملية لتقريب وجهات النظر بين القاهرة وتل أبيب، بدعم وتحفيز أمريكي قوي.
كان السادات مقتنعاً حينها بأن 99% من أوراق اللعبة السياسية الدولية بيد أمريكا”، وأن الوقت قد حان لاختراق جدار الصمت والتصلب، والذهاب نحو سلام يعيد الأرض ويحفظ الدماء.
لكن الدول العربية، باستثناء السودان وسلطنة عُمان، قاطعت المؤتمر، معتبرة إياه خيانة صريحة للقضية الفلسطينية، وتفريطاً صارخاً في وحدة الصف العربي. رفضت منظمة التحرير الفلسطينية، وسوريا، والعراق، وليبيا، والجزائر، ودول الخليج، المشاركة، وتمسّكت بمبدأ أن لا سلام مع الاحتلال دون انسحاب شامل من الأراضي المحتلة عام 1967، وقيام دولة فلسطينية حرة و مستقلة.
في تلك اللحظة، بدا السادات وكأنه يغرد خارج السرب، مفككًا وحدة الموقف العربي الذي تأسس بعد [نكسة 67] و الذي رسّخ في قمة الخرطوم الشهيرة “لاءاته الثلاث”
[لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض مع إسرائيل] وتوالت الإدانات، حتى تم تعليق عضوية مصر في الجامعة العربية، ونقل مقرها من القاهرة إلى تونس لأول مرة في تاريخها.
غير أن السادات مضى في طريقه، متسلحاً بقناعته وبرؤيته الاستراتيجية التي رأى أنها أكثر نفعاً لمصر . في الحقيقية لقد مهد هذا المؤتمر لاتفاقية “كامب ديفيد” عام 1978، ثم توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في 1979، ليكون بذلك أول زعيم عربي يوقّع اتفاق سلام رسمي مع إسرائيل.
وبالنظر إلى المشهد الحالي بعد مرور نحو خمسين عاماً على تلك الخطوة المثيرة، و بعد الأحداث التي شهدها الصراع العربي الإسرائيلي ، تبرز تساؤلات عميقة :
هل كان السادات فعلاً خائناً؟ أم أنه كان أكثر الزعماء العرب حكمة وبعدا للنظر؟
من حيث النتائج الملموسة، فقد استعادت مصر كامل أراضيها في سيناء دون أن تخوض في حروبٍ جديدة مع الكيان ، وتوقف نزيف الدم المصري في المعارك المتكررة مع إسرائيل. كما استطاعت الدولة المصرية إعادة توجيه مواردها نحو التنمية الداخلية، ولو تدريجياً، بعد أن استنزفتها الحروب المتتالية.
لكن و على الجانب الفلسطيني، فإن هذه الاتفاقية لم تحقق اختراقاً يُذكر. إذ لم تنص صراحة على قيام دولة فلسطينية مستقلة، بل تحدثت عن “حكم ذاتي” للفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة، وهو ما لم تقبل به إسرائيل فيما بعد ، وظلت تراوغ حول تنفيذه حتى هذا التاريخ . واستمر الاستيطان، وتعمق الاحتلال، بينما تراجعت القضية الفلسطينية إلى مرتبة أقل في سلم الأولويات الإقليمية.
في المقابل، كانت المعاهدة سبباً رئيسياً في اغتيال الرئيس المصري أنور السادات عام 1981، على يد متطرفين من تنظيم الجهاد ، خلال العرض العسكري في ذكرى نصر أكتوبر، الذي تحول إلى ذكرى لرحيله.
و اليوم، وبعد خطوات تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية ، هل لازال يبدو أن ما فعله السادات خيانةً و شذوذاً؟ أم أنّه كان مقدمة لمسار إقليمي جديد؟
هل كان ما أخذه السادات يوازي ما تنازل عنه.؟ هل يمكن لسلام منفرد أن يُحقق عدالة دائمة لشعب محتل؟
السادات، برؤيته المنفردة، و بحسب الواقع العربي اليوم فإن الرجل سبق زمنه بخطوة كبيرة، لكنه دفع سمعته و حياته ثمناً لذلك . ورغم مكاسب مصر، بقيت فلسطين هي الخاسر الأكبر في مفاوضات لم تكن حاضرة فيها، ولا ممثلة بحق.
فهل كان السادات خائناً؟ أم قائداً يحمل فكراً و حِكمة استثنائية؟
الإجابة على هذا السؤال ستظل تتأرجح بين ضمير الأمة، وصفحات التاريخ.














