الحرام بين الأدب والسينما 

الحرام بين الأدب والسينما 

 عبدالمنعم محمد

قبل منتصف الليل بساعتين يبدأ القلق يحوم حول رأسي كما يحوم الذباب حول قطعة حلوى يشتهيها، يحوم حولها ويلتم على كتلتها وينهشهاغير عابئ بأي شيء هكذا كان القلق يلتهم عقلي خصوصًا في هذا التوقيت الذي أستعد فيه للنوم حيث الغد، حيث الاستيقاظ في السادسة والنصف، حيث السب والشتائم، حيث أمور أخرى كثيرة يقولون أنها في صالح التعليم، أُنفض سريري، أخرج مهرولًا إلى المسجد لصلاة الصبح ومن ذلك الوقت إلى الظهيرة أعاني معاناة شديدة في معهدنا الأزهري، فأسقط في حفرة الغياب مرتين كل أسبوع أحددهما بالليل:

والله لو جيه يصحيني ما انا قايم ولا رايح المعهد واللي يحصل يحصل.

وبالفعل يدخل أبي يرمي شباكه ولا أستسلم لصخبه فينزع الغطاء صارخًا :

هي دي أشكال ناوية على تعليم.

وأنام على راحتي وأستيقظ في العاشرة بدلًا من السادسة والنصف، أصلي الصبح والضحى، أفطر منتعشًا بصحبة الغياب وغياب اليوم ليس كأي يوم؛ غياب اليوم جعلني أسمع النسوة الملمومة واللاتي تتقيأ الحكايات في اليوم سبعين مرة وحكاية اليوم ليست كأي حكاية إنّها حكاية اللقيط الذي عثر عليه أحد خفراء القرية في ميضة المسجد ومن ثَمّ سلّمه للمديرية، لَقيط ما تزال الروح تبث كيانها فيه، لَقيط غير لَقيط الخفير – محمدعبدالمطلب البحراوي – أحد شخصيات رواية (الحرام) درة الأدب الإدريسي والأدب الإدريسي في الريف البحري لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وجسد الريف المصري تعامل معه إدريس كطبيب يقف في معمله يعلم طلابه التشريح والجراحة، يعلمهم كيفية تشريح الجسد بمعلمة،  وصنعة، واحترافية، وجسد الريف المصري فيه الفلاحون وعمال التراحيل وعلى رأسيهما العمدة، والخفراء، وفريق إدارة التفتيش الموظفون : محبوب ساعي البريد، وأحمد سلطان الإداري، ومسيحة الباشكاتب وفكري أفندي مأمور الزراعة.إدريس في الرواية لم يُنحِ أحدًا عن الخطيئة،لم يُنح (لندة) بنت الباشكاتب وعلاقتها بصفوت ابن المأمور تارةً وأحمد سلطان – زوجها المستقبلي – تارةًأخرى، لم يُنحِ زكية زوج محبوب ساعي البريد، لم يُنحِ معظم نساء القرية ورجالاتها كلهم يخطئون وكلهن يُخطئن لكن خطأ عن خطأ يُفْرَق،وهل خطأ ابن الفلاحين المفتشين والمزارعين أصحاب الأرض كخطأ عمال التراحيل؟ هل حجم الخطأ هنا مثل حجم الخطأ هناك؟وهل الأخطاء واحدة؟هل يتحول الخطأ إلى خطيئة إلا عندما توجد الشواهد المادية كالطفل اللقيط ابن الترحيلة والعذاب والفقر والجوع، ابن المرأة التي غاب عنها زوجها بسب المرض، ابن عزيزة الحبلى من محمد بن قمرين، والسؤال الذي يجب أنْ يُسأل :ماذا يجب أنْ تفعل عزيزة عندما وقعت في الحفرة حاملةً البطاطا لزوجها المريض عبدالله، واقعة ومحمد بن قمرين نزل لينقذها فوقعت الواقعة واختلط الوقود بالنار،فاشتعلت وأصبح رمادها ذلك الطفل اللقيط الميت،هجم عليها كما يهجم الماء على أرضٍ ظمئ رواها فقاومته ولكنها المقاومة التي تشبه الاستسلام،عمال التراحيل لا ضهر لهم ولاسند،إذا سُرق شيئًا فهم السارقون وإذا ذُبح شيئًا فهم الذابحون ،وإن أخطأ أحدٌ فهم المخطئون عمال التراحيل الذين عرف جمال عبدالناصر حكايتهم من خلال القطرعبر المنديل والبصلة،عرف حكايتهم بعد هذه الحكاية الإقطاعية إنّه الأدب الإدريسي الذي يرصد الواقع والذي يؤرخ لطبقات الشعب المصري في وعاءٍ أنيق،إنّه الحرام المتجلّي أدبيًّا في صنوف الناس جميعًا والمتجلي سينمائيًا فقط في عزيزة، لقد سلطت السينما الضوء قدر استطاعتها عليها دون غيرها وأعتقد أنه من أسباب الاتقان في العمل حيث التركيز على بؤرة واحدة، وهذا لا يعني أنّ السينما أهملت الأصوات الأخرى في الأدب والدور الإنساني في الشخصيات الموجودة في الأدب، السينما لم تهمل صوت الحمار ونهيقه، ووقع أقدامه، وهيجان الغبار ولونه، وأنين عمال التراحيل، وأنين عزيزة وتخاريفها وهي تقول: “جدر البطاطا كان السبب..حرام..الشيطان كتفني..ياضنايا..قالي عاوز بطاطا وروحت برجليه ..أنا وقعت لطولي وهو اللي مال

هكذا تُرجمت التخاريف ونسجت الحكايات لكنّها لم تُجرد أي فرد من إنسانيته يقول(عرفة)خولي الترحيلات:في حواره مع بعض الأنفار :

اللي يستر عرض الولايا ربنا يستر عرضه

عزيزة مش غريبة

دي زي أختنا كلنا ولا ايه وشرفها شرفنا كلنا

كل واحد فيكم يبلغ زمايله ومش عاوز كلمة واحدة تطلع بره.

لقد بذل سعد الدين وهبة مجهودًا ضخمًا في هذا الحوار، وبذل بركات مجهودًا ضخمًا في اختيار الأصوات والشخوص التي ستلقي هذا الحوار، اختار فنانة لم يتوقع الواحد أنَّها ستكون  بطلة الرواية، إنها فاتن حمامة، اختار الفنان -عبدالله غيث – ليكون زوجها عبدالله الذي أنطقه سعدالدين وهبةبمالم ينطقه إياه إدريس حيث أنّ الأدب أكثر جرأة من السينما وأشد تكثيفًا منها يقول الأدب : “كده يارب !يرضيك مراتي توكلنا

وتقول السينما : “يا رب أرقد أنا في الدار زي الوليا وعزيزة تجري عليا والعيال

اختار بركات الفنان – زكي رستم  – لدور فكري أفندي مأمور الزراعة وناظرها، اختار الفنان – عبدالعليم خطاب في دور عرفة الخولي وأنطقهما الحوار بصفات تنطبق مع الصفات الإنسانية في الرواية :

أصلها بعيد عنك بتخطرف يا حضرة الناظر الحمى ملهلبة نفوخها طول النهار والليل بتقول كلام يقطع القلب باين عليها آست كتير في حياتها

لكن دي تموت كده

تعمل ايه يا سعادة الناظر العين بصيرة واليد قصيرة هي لاقية تمن اللقمة لما هتلاقي تمن الدوا

اسمع يا ولاه يوميتها ماشية

الله يجازيك بالخير يا سعادة البيه ربنا يسترها معاك يا سعادة البيه الناظر.

لقد أحدثت السينما تغيرًا على الفلاش باك الإدريسي بدأت بصوت الرواي يقول مقدمة تعريفية للمكان ثم انتقل للمشهدالأول في السينما والذي اتفق في مضمونه وفكرته واختلف زمن عرضه حيث تم عثور عبدالمطلب على اللقيط في زمن أسرع وأقصر من الرواية، وكانت النهاية واحدة وهي موت عزيزة من شدة الجوع والخوف والفقر والنزاع بين جدلية الحرام والتي ألقها الفنان – حسين رياض – بصوته الفخيم :

وعادت عزيزة إلى قريتها جثة هامدة ولكن الناس ظلوا يتساءلون:” أهي خاطئة غسلت بالموت خطيئتها ؟ أم شهيدة دفعتها إلى الخطيئة خطيئة أكبر منها”.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :