مالك المانع
في عام 1839، حين اندلعت حرب الأفيون الأولى بين الصين وبريطانيا، لم تكن الصين تدرك بعدُ أنها بدأت تدخل نفقاً مظلماً سيُسمّى لاحقًا في كتب المؤرخين الصينيين “قرن الذلّ” (1839–1949).
قرنٌ كاملٌ من الانكسار الممنهج، والإهانة المتكررة، والاستعمار الاقتصادي والسياسي والعسكري.
قرنٌ دُمّرت فيه مدن، وأُحرقت فيه قصور الإمبراطور، وتعرّت فيه السيادة الصينية أمام القوى الاستعمارية: بريطانيا، فرنسا، اليابان، ألمانيا، روسيا، وحتى الولايات المتحدة.
لم تُقسم الصين بين المحتلين فقط، بل شُلّت إرادتها الوطنية بالكامل، وفرضت عليها “معاهدات غير متكافئة” جعلت من أرضها ساحة لتجارة الأفيون، ومن شعبها سوقًا مفتوحًا بلا سيادة.
بل حتى المياه الإقليمية والموانئ الكبرى، كـ”هونغ كونغ” و”شنغهاي”، كانت تحت الوصاية الأجنبية المباشرة.
ولم تكن اليابان أقل قسوة من الغرب، فقد احتلت منشوريا عام 1931، وارتكبت مجازر فظيعة في نانجينغ عام 1937، راح ضحيتها أكثر من 300 ألف إنسان في أقل من ستة أسابيع، فيما عُرف لاحقاً باسم “اغتصاب نانجينغ”، أحد أكثر الفصول دموية في التاريخ الحديث.
ولكن حين هُزم اليابانيون في الحرب العالمية الثانية، وسقطت آخر أشكال الاحتلال، لم يكن النصر كافيًا.
فالصين، التي أنهكها قرنٌ من الذل، اختارت أن تعيد خلق نفسها.
لم تبدأ من التفاخر بالماضي، بل من نقده.
ولم تسجّل بطولاتها في المحافل، بل في قاعات التفكير والتخطيط.
أعلن ماو تسي تونغ عام 1949 قيام “جمهورية الصين الشعبية”، وقال قولته الشهيرة:
“لقد نهض الشعب الصيني من جديد”.
لكن النهوض لم يكن هتافًا…
بل جاء بعد مجاعة كبرى (1959–1961) أودت بحياة عشرات الملايين، وتجارب فاشلة في القفزة الاقتصادية، ثم تصفية حسابات داخلية في الثورة الثقافية، كل ذلك كان ثمنًا مريرًا، لكنه كان تحت عنوان واحد:
“نحن نُخطئ، لكننا لا نُخادع أنفسنا”.
ثم جاءت التحولات الكبرى في عهد دنغ شياو بينغ عام 1978، الذي أعلن:
“لا يهم إن كان القط أبيض أو أسود، المهم أن يصطاد الفئران”
معلناً نهاية أيديولوجيا الجمود وبداية عصر البراغماتية الاقتصادية.
منذ ذلك الحين، تحوّلت الصين من دولة زراعية فقيرة إلى ثاني أكبر اقتصاد عالمي،
ناتجها المحلي تضاعف أكثر من 50 مرة،
وأخرجت خلال 30 عاماً فقط 800 مليون شخص من خط الفقر،
وبنت أسرع قطارات في العالم، وأكبر شبكات نقل، وأصبحت منافسًا شرسًا في الذكاء الاصطناعي والفضاء والنووي والهيمنة الجيوسياسية.
كيف؟ ولماذا؟
لأنها اعترفت أنها كانت في الحضيض.
ولأنها لم تخلط بين الصبر والخنوع، ولا بين الكرامة والغرور، ولا بين الهوية والجمود.
ثم، دعنا نُنزل هذا المشهد العظيم على واقعنا نحن…
نحن أبناء أمة كانت، ذات زمن، مركز العالم، ومهد الرسالات، ومنبع العلم.
أمة أشرقت شمسها من مكة، واستضاءت من بغداد، وازدهرت في قرطبة والقيروان.
لكن منذ قرون طويلة، ونحن في انحدار مستمر،
خسرنا الخلافة، ثم خسرنا الاستقلال، ثم خسرنا الأرض، حنى خسرنا الكرامة و الرواية.
ولم نملك بعدها إلا أن نتغنّى بالماضي.
نعلّق فشلنا على الآخرين، ونُعزي خنوعنا بالمؤامرات، ونرفع شعارات دون مضمون.
فكم من زعيم فينا صرخ باسم العروبة وهو يبيع ترابها؟
وكم من خطاب أُلقي في قمةٍ عربية بينما تُقصف غزة أو تُنهب صنعاء أو تُغتال بغداد؟
وكم من مرة دفنّا الحقيقة، خشية أن تجرح كرامتنا .. ؟
لكن الحقيقة المجرده التي لا مناص منها و يجب تُقال مهما كانت مُرّة:
” إنَّنَا نَعِيشُ قرْناً مِنَ الذُلِّ بامْتِيازْ ”
قرناً ليس أقل قساوةً مما عاشته الصين، بل لعله أن يكون أكثر فضاعةً و ضياعاً، لأننا لم نملك حتى الآن شجاعة الاعتراف.
فإن كانت الصين قد نحتت عظمتها من صخر الهزيمة، فنحن ما زلنا نحفر قبورنا بمعاول الإنكار.
وإن كانت قد خرجت من “قرن الذلّ” لتكتب نهضتها بالأرقام، فنحن ما زلنا نكتب مجدنا بالحروف فقط، ونصرخ في الفراغ، بينما تنهار أوطاننا و تنقض حجراً حجراً.
أما آن لنا أن نتعلم أن الأمم لا تُهزم حين تسقط، بل حين تكابر.
ولا تنهض حين تصرخ، بل حين تُحاسب ذاتها بصدق.
فلنبدأ على الأقل باعتراف واحد على الأقل: ” نحن فشلنا “…
نحن فشلنا لكن لا زال في القلب ما يكفي من حياة لنبدأ من جديد، إن صدقنا النية، وفهمنا الدرس ..…………………………………………………………………….














