دراسة فى الموسيقى  عن  الــطّـــقْــــطُـــو قَـــة

دراسة فى الموسيقى  عن  الــطّـــقْــــطُـــو قَـــة

  • عبد  الستار  سليم

نحن  نعلم أن  قوالب الغناء العربى  تنوعت تنوّعا متباينا ،  واشتهر من  هذه القوالب

( القصيدة ، و الموشّـح ، والــدُّ و ر ، و الطقطوقة ، والمـوّال ، و الـقَـدّ ، والمونولوج ،

والدّ يالوج ..)

وبعض هذه المسمّيات معلوم  – تسمية. ومُـسَـمّى –  وبعضها يلتبس فى  أذهان  كثير من الناس ،  ومن هذه التسمّيات الملتبسة  ،  ويعتقدون أن الطقطوقة  والأغنية الحديثة شيئا واحدًا  ،  فى حين أن ذلك غير صحيح ، إذ أن هناك فرقا بين كل من الطقطوقة والأغنية ، يظهر عندما نتعرف على ، الفروق فى  النظم الشعرى ، وطريقة التلحين ، وكذلك أسلوب الأداء ..!

فالطقطوقة ،   هى نوع من الموسيقى شرقى  الأصل ، و هى لون  من ألوان الغناء العربى ، عُـرِف بمصر  فى الأربعينيات  من القرن العشرين ، و أشهر   هذه الطقطوقات ، طقطوقة ( على بلد المحبوب ودّينى ) للسنباطى ، و سيدة الطرب العربى أم كلثوم ، وكتب كلماتها  أحمد رامى

و تتكون  ، من المذهب ،   وثلاثة كوبليهات

تقول كلماتها

المذهب :

(على بلد المحبوب ودّينى  …. زاد وجدى والبعد كاوينى)

……

١- يا حبيبى دا  انا قلبى معاك … طول ليلى سهران ويّاك

تتمنّى     عينى             رؤياك … أشكيلك وانت   تواسينى

…………

(على بلد المحبوب ………المذهب )

***

٢- يا هنايا   لـمّـا افْرَح بيك … واتْهَـنّى بْـقُـرْبَـك واناجيك

وِعْـنَـيّـا. تِـبْـقَى  فى عْـنيـك… أحكيلك و  انت     تراعينى

( على بلد المحبوب …… المذهب )

***

٣- يا مْـسـافِـر على بحر النيل … أنا ليّـا  فى مصر خليل

مِـن حُـبّـه ما بانام الليل  … على بلد المحبوب ودّينى

( على بلد المحبوب …… المذهب )

وكتب هذا النوع من النظم فى مطلع القرن العشرين شعراء منهم يونس القاضى ، و بديع خيرى ، وأحمد رامى ، وبيرم التونسى ،

 و لـحّن قالب الطقطوقة سيد درويش ، و محمد القصبجى ،. و زكريا أحمد ، و محمد عبد الوهاب ، و رياض السنباطى ، ثم تبعهم كثيرون

فكثُر  وشاع العديد من الطقطاطيق  على ألسنة الناس ،  بل و راج انتقال ألحانها من جيل إلى جيل ، فذاع صيت طقاطيق  سيد درويش ، ومنها ( خفيف الروح ) ، و( أهُه ده اللى صار ) ، و ( طلعت يا محلا نورها ) ، و (زورونى كل سنة مرة ) ،

ولمحمد القصبجى ( ما دام تحب بتنكر ليه ) ،

وللشيخ زكريا أحمد (غنيلى شوىّ شوىّ ) ، و ( يا حلاوة الدنيا )

ولمحمد عبد الوهاب (خايف اقول اللى ف قلبى )، و (إمتى الزمان يسمح يا جميل )

 وأصبح شكل الطقطوقة من أشهر الأشكال الغنائية  فى النصف الأول من القرن العشرين ..  إلى أن احتلّ قالب الأغنية الحديثة  مكان الصدارة بعد ذلك ..!

هذا هو الشكل التقليدى  للطقطوقة ، والذى استمر ، ألى أن جاء  زكريا أحمد  – أحد عمالقة الموسيقى العربية – و طّوّ ر  قالب الطقطوقة ، و ارتقى بها شوطا عظيما ،  بحيث أصبح لكل غصن لحن مختلف  ( مثلما فعل فى طقطوقة  ” يا حلاوة الدنيا ” )  وهى من كلمات بيرم التونسى ،

 وقالب الطقطوقة يتطلب  أسلوبا  خاصا  فى التلحين ، وكتابة الزجل ، والإلمام بالقواعد النغمية  للمقام الذى يتم الـتلحين فيه ، ويُراعَى فيه  الانتقال اللحنى حسب ما تقتضيه قاعدة الانتقال المقامى من جهة ، وحُسن  تصرف الملحن  فى إدخال بعض الأنغام العرضية  دون المساس بأصل المقام

وعليه فإن هذا الشكل من الغناء العربى  الذى يميّزه عن غيره ، طريقة النظم  والتلحين  والغناء ، يتكون من حيث البناء المعمارى الشعرى ،  من مطلع ، وثلاثة مقاطع ، (وبالإفرنجى يسمون ا لمقاطع هذه كوبليهات – جمع كوبليه – والمطلع ، يسمّيه الموسيقيون ”  المذهب ” ) ، أى تتكون الطقطوقة – شعريا – من   مذهب و ثلاثة  كوبليهات ، والشعراء يطلقون على هذه المقاطع لفظ ” الأغصان ” ، و غالبا تصاغ كلها من بحر شعرى واحد ، كما يتم أداؤها بلحن واحد متكرر ،

و يعتمد لحن الطقطوقة على بداية الغناء بالمذهب ، ثم العودة إليه بعد كل كوبليه ، أى يُعاد  تكرار المذهب  ، كذلك يُختم به الغناء  .. 

إذن ، تتميز الطقطوقة بخاصية فريد هى احتوائها على مذهب مستقل ، يتكرر  بين المقاطع الغنائية ..

 وعادة تُعرف الطقطوقة بلحن مذهبها ، فإن نجح لحن المذهب ، نجح اللحن كله ، والعكس بالعكس ، ولهذا  ، يُكـرّس  الملحن أكبر جهده  للتركيز الشديد  فى لحن المذهب  ، الذى هو مفتاح النجاح .. كما استخدم هذه الميزة – أيضا- الشعراء ، فحاول كل منهم وضع أقوى ما يمكن من الألفاظ المؤثرة ، والتعبيرات  الجذابة ، فى كلمات المذهب لنفس السبب . .

أما الميزة الكبرى  لألحان الطقطوقات ، فهى قابلية المذهب  للحفظ بتكرار غنائه بين المقاطع ، لذا فهو أقرب جزء – من الطقطوقة  – للجمهور ، وكثيرا ما نجد الجمهور  يحفظ المذهب و يردّده مع المغنى ، ويترك له بقية الغناء ، ليستعرض فيه صوته ، وتَمكّنه من الأداء . .  والسبب فى ذلك يرجع إلى استخدام  الملحنين للتراكيب السهلة الجذابة ، فى تلحين المذهب حتى تلتقطها أذن الجمهور ، و إرجاء الإبداعات الفنية الثقيلة و المركبة ، إلى الكوبليهات التى يؤديها المطرب بمفرده

 وفى سبيل ذلك – أيضا-لجأ كثير من الملحنين إلى استخدام ” الكورَس ” – أو الردّيدة – فى المذهب ، دون المطرب ، الذى ينتظر  فراغ ” الكورس” من الأداء ، فيبدأ فى غناء الكوبليهات. . 

ولكى نقف أكثر على دقائق تركيب الطقطوقة ، نلقى مزيدًا من الضوء على  طقطوقة( أهُـه  ده اللى صار ) وهى من ألحان سيد درويش ، وأشعار بديع خيرى ، أو  من كلمات يونس القاضى -حسب بعض الأقوال  – كمثال  للطقطوقة المكتوبة والملحنة بالمواصفات الأساسية ،  تقول كلمات الطقطوقة :

المذهب :

(أ هُــــه  دَ ه  ا لـلى  صــــا ر   و ا دِ ى   ا لـلـى كــا ن

مــا   لَــكْــش  حَـــــقّ    تْــلُـــــو م    عَــــــلَـــيّــــــــا )

***

١-  تــلــو م  عَــلَـــيَّـــا    ا زّ ا ى    يــا  سِـــــيـــدْ نَــا

    وِ  خِـــيــر بِـــلا دْ نَــا   مـا هُـــو ش فِـى  إ يــدْ نَــا

    قُــو ل لِى    عَـن أ شـــيــا ء    تِــفِـــــــــيـــــدْ نَــا

    وِ  بَــعْـــــدَ هَـا   ا بْــقَـــــى لُـــــــو م  عَـــلَـــيّــــا

   ……

( أ هُــه  د ه  ا لـلــى  صــا ر …….            المذهب)

***

٢- مَــصْــــر       يــا    أُ مّ   ا لـــعَــــجَــــــا يِـــــــب

  شَــعْـــبِــك  أ صِـــيـل وِ  ا لـخِــصْـــم  عــا يِـــــب

  خَـــلّــى  بــا لِــــــك   مِ    ا لـــحَـــــْبــا يِــــــــــب

 دُ و لَا     أ نْــــصـــــــــــا ر  ا لـــقَـــضِـــــــــــيّـــــة

……

( أ هُــه  د ه  ا لـلــى  صــا ر …….           المذهب )

***

٣- بِــد ا ل  مــا  يِــــشْــمَـــت  فِــيـــنَـا  حـا سِــــد

   إ يــــدَ ك فِـى إ يـــدِ ى  قُــــو م  نِــجـــا هِــــــــد

  وِ   ا حْـــنَـــا  نِــبْــــــقَـــى  ا لــكُـــلّ  و ا حِــــــــد

  وِ ا لأ يَـــا دِ ى     تْــــصِــــيــــر    قَــــــوِ يّــــــــــة

………

( أ هُــه  د ه  ا لـلــى  صــا ر …….           المذهب )

***

هذا الشكل البسيط والمباشر للمربعات (  وهو شكل تقليدى تكرر كثيرا على مدار  القرن العشرين ) يتناسب مع الوضوح الشديدفى مضمون الكلمات ،التى تعكس فى الغصن الأول ببساطة وعمق تشخيصا لِما آل إليه  الوضع فى مصر عشية ثورة 1919  ، وبشكل ينطبق بدقة – فى حقيقة الأمر على الأوضاع عشية أى ثورة ، فهل تقوم الثورات إلا لأن ( خير بلادنا ماهوش فى إيدنا )

يلى ذلك الدعوة فى الغصن الثانى  لوحدة صف المناضلين ( إيدك فى إيدى وقوم نجاهد) وعلى الشرط الضرورى لانتصار الثورة ، و أخيرا يأتى الغصن الثالث ، ليختتم القصيدة  بإعلان الإيمان المطلق  بقدرة ” الشعب الأصيل ” ، على الإتيان بالعجائب المطلوبة للانتصار على “كل خصم عائب”

 سيّد درويش قد التزم تماما ،   بالقالب التقليدى ،  فنسمع المذهب  المكون  من بيت واحد  هو

(أهـه ده اللى صار  وادى اللى كان .. ما لكش حق تلوم عليّا )

ويلى هذا المذهب  ، ثلاثة كوبليهات ( مفردها “كوبليه” ) ، صيغت كلها على صورة مربعات ، يتكون كل  منها  من ثلاثة أشطار بقافية موحّدة ، والشطر الرابع يعود بنا ، بقافية  شبه المقطع الأخير فى المذهب –

ففى  المربع الأول ، نجد  الأشطار الثلاثة  بقافية موحدة ( سِـيدنا / إيـدنا / تفيـدنا )، ثم  فى الشطر الأخير  ( وبعدها ابقى لوم عليّا ) فيعود بنا إلى المقطع الأخير من المذهب ( الذى سنطلق عليه مجازا  “قافية المذهب”)

ثم يتكرر  نفس النسَق  فى المربعين الثانى   ( عجايب / عايب / حبايب ) ثم نعود إلى  ( دولا   انصار القضية )

ويتكرر ذلك فى المربع الثالث ( حاسد /  نجاهد / واحد) ثم  نعود إلى ( والأيادى تصير قوية )

وما فعله سيد درويش ، فعله رياض السنباطى فى طقطوقة ( على بلد المحبوب ودّينى ) الشهيرة  ،

كلاهما صنع لحنا واحدا ، لم يتغير ، للكوبليهات الثلاثة

وكما قد تُلَـحّن كل الكوبليهات  بنفس اللحن ، خاصة إذا كانت من نفس الوزن والبحر الشعرى ، فقد يتخلّل المقاطع ” لِـزَم ” موسيقية – جمع ” لازمة”  وعلى نغمات موسيقية تتخلل اللحن “- تطول أو تقصر  حسب رؤية الملحن . .

وقد يتم تلحين كوبليهات الطقطوقة بألحان مختلفة ، تتعدد مقاماتها ، وإيقاعاتها ، كما حدث فى بعض ألحان سيد درويش  المسرحية ، التى صيغت على قالب الطقطوقة ، حيث أدخل  بديع خيرى مقطعا  ختاميا من وزن بحر مختلف عن سائر النظم ، وتبع ذلك تلحين  هذا المقطع  بلحن مختلف ، والانتهاء به – كمختتم –  بدلا من العودة إلى المذهب ( كما فى لحن ” الحلوة دى قامت تعجن ” ) ، و لحن (الشيّالين ) ، وبذلك خرجت هذه الألحان  من قالب الطقطوقة  التقليدى ، وذلك لغرض التعبير المسرحى ..!

عندما طرأ تغيير على قالب الطقطوقة ، بحيث يتم الرجوع  بعد كل كوبليه ، إلى الجزء  الأخير من المذهب ، وليس المذهب كله ،  فظهرت بذلك  الأغنية الحديثة ، و من قوالب الغناء العربى ،  وراح قالب آخر ينافس الطقطوقة هو قالب المنولوج ، (أو النظم المتواصل  الذى لا يحتوى على  مذهب ، وليس به رجوع إلى كلام أو لحن البداية ) ، وأدّى هذا التغيير إلى عودة سيادة  المطرب ، وتراجع الغناء الجماعى ..!

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :