- نيفين الهوني
تُقام حلقات الذكر على إيقاع الدفوف، ويعلو صوت “الله، الله” في انتظامٍ مهيبٍ كأنّ القلوب تتنفس الإيمان في نَفَسٍ واحد. وليس ذلك صخبًا من طربٍ دنيوي، بل وجدٌ صادقٌ يوقظ الروح من غفلتها، يذكّرها بأن وراء الجسد سِرًّا لا يُدرك بالعقل وحده.
العيساوية في مكناس طريقة حياة، تجمع بين الدف والدين، بين النغمة والنية، بين الحركة والسكون. كان شيخهم سيدي محمد بن عيسى من أولئك الذين فهموا أن طريق الله لا يُسلك إلا بقلبٍ خاشعٍ وعقلٍ متفكرٍ وجسدٍ منضبط. لذلك ترى أتباعه يلتزمون بالذكر، ويتجردون من زخارف الدنيا كما يتجرد النهر من مائه كلما اقترب من البحر والزاوية هنا حيث كنت ليست محض مكانٍ للعبادة، بل مدرسة للروح. فهنا يتجلّى التوازن المغربي العجيب بين المادة والروح، بين العمل والذكر، بين الحرفة والدعاء في المدينة التي تُعلّمك أن اليد التي تطرق النحاس، يمكن أن تكون هي نفسها اليد التي تسبّح باسم الله، وأن الصانع والفقيه، والعطار والذاكر، كلّهم جنود في معركة الإنسان مع الغفلة
الزوايا الصوفية في مكناس ليست مجرد فضاءات للذكر والعبادة، بل هي ذاكرةٌ حيةٌ للمدينة وركنٌ من أركان هويتها الروحية والاجتماعية. فمنذ العصور السعدية والعلوية، كانت مكناس موئلًا لكبار المتصوفة والعارفين، ومركزًا لتلاقح الطرق والأفكار الصوفية التي امتزج فيها البعد الديني بالبعد الثقافي والاجتماعي.
فالزاوية في مكناس ليست مكانًا منعزلًا عن الحياة اليومية، بل كانت على الدوام نسيجًا متصلًا بالمجتمع، تُعلّم وتُربي وتُطعم وتُؤوي، وتُسهم في نشر السلم والبركة بين الناس. لذا ظلّ احترام السكان لها راسخًا، إذ يرون في شيوخها أهل علمٍ وصلاحٍ ووسيلة قربٍ إلى الله.
ومن أبرز الزوايا التي عُرفت في مكناس:
الزاوية العيساوية: وهي الأشهر على الإطلاق، مقرّها في حيّ سيدي عيسى، حيث ضريح الشيخ سيدي محمد بن عيسى، الملقب بـ”الهادي”. تُمثّل هذه الزاوية مدرسة فنية وروحية تجمع بين الذكر، والإنشاد، والحركة التعبدية. يحجّ إليها المريدون من مختلف مناطق المغرب، خصوصًا في موسمها السنوي الذي يجمع آلاف الزوار.
الزاوية الدرقاوية: تمتد جذورها إلى الطريقة الشاذلية، وتتميّز بالتركيز على الذكر الخفيّ والخلوة والتربية الباطنية. أسسها أتباع الشيخ مولاي العربي الدرقاوي، وانتشرت زواياها في مكناس وضواحيها، حيث تُعرف بالزهد والعلم.
الزاوية التيجانية: رغم أن مركزها الأكبر في فاس، إلا أن مكناس تحتضن عددًا من فروعها، يجتمع فيها المريدون لتلاوة الأوراد التجانية وتعلّم السلوك الصوفي. وهي تُعدّ من الزوايا ذات الطابع العلمي والتربوي.
الزاوية القادرية: تنتمي إلى الطريقة القادرية المنسوبة للشيخ عبد القادر الجيلاني، ولها حضورٌ تاريخي في مكناس، خاصة بين الأسر العلمية والتجارية. تُعرف بمجالسها الهادئة بإهتمامها بخدمة القرآن والفقه.
الزاوية الوزانية: نسبةً إلى سيدي عبد الله الشريف الوزاني، وقد وجدت في مكناس بيئة حاضنة لتلاميذها، خصوصًا لما عرف عن الطريقة الوزانية من ميلٍ إلى التوازن بين الشريعة والحقيقة.
وتقدَّر الزوايا في مكناس بالعشرات، تنتشر في الأحياء العتيقة مثل المدينة القديمة، وباب جديد، والهديم، والقصبة، وكل واحدة منها تحمل بصمتها الخاصة، سواء في طريقتها في الذكر، أو في نوع خدمتها للمجتمع.
ولا تزال هذه الزوايا تحتفظ بمقامٍ كبير في قلوب المكناسيين؛ فزيارتها لا تقتصر على المريدين، بل تشمل عموم الناس الذين يجدون فيها سكينةً ورحمةً وذاكرةً جماعيةً تعيدهم إلى جذورهم الروحية. وهكذا تظل مكناس، بمدارسها وزواياها وأضرحتها، مدينةً تُوازن بين الصنعة والعبادة، بين الجمال والصلاح، وبين الأرض والسماء.يتبع














