- مراد اللحياني
هذه القصيدة لا تأتي لتبكي أبًا فردًا، بل لتبني سردية كاملة عن الفقد والغياب، عن الأب بوصفه رمزًا يتجاوز حدود العائلة ليمسّ الوطن والتاريخ والمصير. منذ البدء، يتعامل النص مع موت الأب لا باعتباره نهاية طبيعية، بل كفعل قتلٍ مباشر: “مذ قتلوك”، هنا يفتتح الشاعر مساحة الغياب بإشارة دامغة، تُحيل إلى مسؤول خارجي، إلى “هم” الذين مارسوا القتل، والذين رغم ذلك ما زالوا يرسلون رسائل إلى المقتول، وكأن الموت لم يكن كافيًا لإزاحته من حضورهم.
المفارقة الأولى في النص أنّ الأب يُقتل، ثم يُعيَّن بعد موته موظفًا في البلدية، مسؤولا عن “سقي الألوان” و”تجميل الخيبات”. هنا يضع الشاعر قارئه في قلب عبثية كبرى: الأب الذي أُقصي بالقتل يُستعاد رمزًا بيروقراطيًا لتزيين حياة فارغة. الموت لم ينقذه من سلطة النظام، بل جرّده من إنسانيته وأعاده ديكورًا لتغطية الخراب. هذه المفارقة الساخرة ليست تفصيلا عابرًا، بل هي مفتاح النص: إننا نعيش في عالمٍ لا يترك حتى موتانا بسلام.
غير أنّ النص، رغم هذه السخرية السوداء، لا يترك الأب أسيرًا لوظيفة عبثية، بل يرفعه إلى مقام الأسطورة اليومية. فالأب “بارع في إخفاء الفصول، وطيّ الحقول بين الحجر”. هذه الصور تكشف عن أب قادر على المستحيل، أب يملك براعة السحر، يخفي المواسم ويخبّئ خصوبة الأرض، وكأن له سلطانًا على الطبيعة. ولكن هذه القدرة الخارقة لا تُمارَس كترف، بل كوسيلة ليمنح أبناءه الحياة: يخاتل الأرغفة ليهدِيهم عمرًا جديدًا، يبدّد جسده وعرقه في سبيل أن يعيشوا. هنا الأب ليس مجرد والد، بل هو “المعيل الكوني”، “القدّيس العامل”، الذي يموت ليحيا الآخرون.
ويأتي المقطع الذي يتحدث عن موت الأب كذروة عاطفية مختلفة: لم تبكه العيون، لم يبكه البيت ولا الشرفات المظلمة، بل بكت القلوب والأرغفة. إنّها صورة عبقرية تنقل الحزن من حيّز الوجدان الفردي إلى حيّز الكوني–المادي: الخبز نفسه، رمز القوت، رمز الاستمرار، صار كائنًا قادرًا على البكاء. في هذه اللحظة يتحول الأب من شخص إلى “مادة حية”، فكل ما خرج من جسده من عرقٍ وتعب صار يملك ذاكرة ويعرف كيف يبكي. بهذا المعنى، لا يعود الموت غيابًا كاملًا، بل يصبح تحوّلًا في شكل الوجود: الأب يسكن الخبز، يسكن الأرصفة، يسكن كلّ لقمة.
ثم يجيء المقطع الذي يواجه فيه الابن حقيقةً هاربة: كلّما وضع حجرًا لبناء السور، طار الحجر على أجنحة العصافير. هنا تدخل القصيدة في مدار رمزي عالٍ: الحجر رمز الثبات، البناء، الرسوخ، لكنّه يفقد وزنه ويغدو خفيفًا طائرًا. ما يُفترض أن يكون أساسًا للوجود يصبح هشًّا متفلّتًا. الحقيقة نفسها لا تثبت، الوطن نفسه لا يستقر. لذلك يطرح الشاعر أسئلته الحارقة: “أرأيت يا أبتي حجرًا يطير؟ أرأيت يا أبتي وطنًا يطير؟”، وهما سؤالان يضعان القارئ أمام استحالة مزدوجة: أن ترى ثباتًا يتلاشى، ووطنًا بلا أرض.
الوطن، كما يرسمه النص، طفل يتعثر: ينهض في ضحكة عاملة، يقف على بائع الخبز مثل طفل صغير، نرى خطوه، لكنه لا يسير. هذه الصورة المدهشة تنقل الوطن من كيان سياسي إلى جسد طفل ضعيف، يحمل وعدًا بالحياة لكنه عاجز عن المشي. إنّه وطن مُعلَّق بين إمكان النهوض واستحالة السير، وطن يعاني من طفولية أبدية، من عجز عن بلوغ النضج. هنا تلتقي صورة الوطن بصورة الأب: كلاهما هشّ، كلاهما ناقص، كلاهما يهب الحياة لكنه يعجز عن الاستمرار.
من الناحية الإيقاعية، النص يتدفق بسلاسة نثرية شعرية، دون تقطيع وزني، لكنه يعتمد على التكرار (“أبي حين مات…”)، وعلى الجمل القصيرة الموجزة التي تمنح إيقاعًا داخليًا يوازي الخفقات. التكرار هنا ليس حشوًا، بل طقسًا، يذكّرنا بتراتيل الرثاء، حيث يعاد الاسم ليُستدعى الحضور. الإيقاع قائم أيضًا على التوازي بين الصور: العيون/الأرغفة، الحجر/العصفور، الضحكة/الطفل، وهكذا يبني النص جدليته عبر التضادّ بين الثبات والهشاشة، بين المألوف والمستحيل.
أما على مستوى الدلالة، فإنّ الأب ليس فردًا فقط، بل هو مجاز للوطن. قتله هو قتل للوطن، دموع الأرغفة هي دموع الشعب، الحجر الطائر هو قانون الحقيقة المراوغة التي لا تثبت. لذلك لا يمكن قراءة النص كرثاء ذاتي، بل كقصيدة وطنية–وجودية، تُسائل معنى الانتماء ذاته: هل يمكن أن نؤسس وطنًا من حجارة تطير؟ هل يمكن أن نمسك حقيقة تسكن أجنحة العصافير؟
ما يجعل النص عظيمًا هو هذا التوتر المستمر بين السخرية والحب، بين العبث والقداسة. الأب يُعيَّن موظفًا في البلدية بعد موته — وهذه سخرية مريرة — لكنه في الوقت نفسه يُقدَّس بوصفه باني الحياة، صانع الخبز. النص يفضح ويحتفي، يخون ويخلص، يضحك ويبكي. وهنا سرّ الشعر: أنّه لا يكتفي بترديد الألم، بل يحوّله إلى احتفال مأساوي، إلى ملحمة حبٍّ للغياب.
إننا إذ نخرج من هذه القصيدة، لا نحمل مجرد صورة أبٍ ميت، بل نحمل حجرًا يطير، ووطنًا ينهض ولا يسير، وخبزًا يبكي، وأبًا يسكن في الأرصفة. وهذا هو الفعل الشعري في أبهى صوره: أن يجعلنا نرى المستحيل ونصدّقه، أن يجعلنا نلمس غيابًا أثقل من الحضور.
النص : حين بكت الأرغفة
علي بن فضيلة
أبي…
مُذْ قَتَّلـوك
وهم يرسلون إليك الرّسائـل
على خدِّ ريـحٍ
على الرّمـل
على كبرى حبّات السّنابـل
وقد عيّنوك بعدما مُتَّ يا سيّـدي
رئيسا لمصلحةٍ في البلديّـة
تسقي ألوان الشّجـر
تُجَمِّلُ خيْباتنا إذا ما غَفَتْ من جديـد
وتعزف للغيم صوت المطـر
ألم تكن يا أبي بارعـا
في إخفاء الفصـول
و طَيِّ الحقول بين الحَجـر؟
كان أبي يعدِّلُ جِلْستهُ كل صبـاحِ
يخاتل الأرغفـة
ليهدينا عُمُرا جديـدا
وأحيانا يُضيع عنوان بيتنـا
فيسكن الأرصفـة
أبي كان يُعتِّق من عرقه حياةً لنـا
يموت لنحيـا
فكم كانت حياتُنا مُكْلِفـة
أبي حين مات لم تفتقده العيـون
و لم يبكِه البيت و لا شُرفة مظلمـة
أبي حين مـات
رأينا الشّوارِع بلا أرصفـة
أبي حين مـات
بكتْه القلوب و الأرغفـة
أتدري أبي
مُذْ رحلـتَ
و أنا أبني سور حقيقتنا الهاربِة
كلّما وضعت حجـرا
يطير على أجنحة العصافيـر














