تقرير : رضوان خشيم
في ليبيا، حيث تتكرر أزمات نقص الدواء وضعف الإمدادات الطبية، يجد عدد من مرضى الأورام أنفسهم مضطرين للبحث عن العلاج خارج القنوات الرسمية، أو شراء الأدوية عبر مسارات غير منظمة، في ظل غياب بدائل مضمونة ومراقبة. وبين متطلبات العلاج الطويل، والتكاليف المرتفعة، وتفاوت جودة الأدوية المتاحة، تتحول رحلة المرضى إلى اختبار قاسٍ يتجاوز حدود المرض نفسه.
من مدينة سبها جنوب البلاد، بدأ محمود الجابري (41 عامًا) رحلته مع العلاج بعد تشخيص إصابته بسرطان الغدد اللمفاوية (ليمفوما غير هودجكين)، وهو مرض يتطلب علاجًا كيميائيًا ومتابعة طبية مستمرة.
يقول الجابري:“في مدينة سبها يوجد مركز واحد فقط لعلاج الأورام، لكنه يفتقر إلى الخدمات العلاجية والتجهيزات الطبية الضرورية، ولذلك اضطررت إلى السفر إلى طرابلس لمتابعة حالتي داخل مركز متخصص.”

في طرابلس، خضع للفحوصات داخل المركز الوطني لعلاج الأورام، ووُضع له برنامج علاج كيميائي، غير أنّ نقص بعض الأدوية داخل القنوات الرسمية دفعه إلى شراء جزء من علاجه عبر مورّدين خاصين خارج المنظومة الصحية.
ويضيف:“كنت أتناول العلاج بانتظام وأعتقد أنني أسير في الاتجاه الصحيح، لكن بعد 3 أشهر بدأت حالتي الصحية تتراجع بشكل ملحوظ.”
ومع تواصل التدهور، قرر السفر إلى تونس لإجراء تقييم طبي أدق.
ويتابع:“تبيّن للأطباء في تونس أنّ الدواء الذي كنت أتناوله ضعيف الفعالية وقد لا يكون مطابقًا للمواصفات الطبية، وهو ما يفسّر عدم استجابة جسمي للعلاج.”
ووفق ما نقله له الفريق الطبي، فإن عبوة الدواء كانت مشابهة لمنتجات إحدى الشركات الإنجليزية المعروفة، غير أنّ التحاليل المخبرية أثبتت أنّ العقار المستخدم لا يحتوي على فعالية علاجية حقيقية.
وبسبب ارتفاع تكاليف العلاج خارج البلاد، عاد الجابري إلى ليبيا ليستأنف المتابعة داخل المعهد القومي لعلاج الأورام في مصراتة، حيث يتوفر جزء من أدويته فقط، بينما يضطر إلى شراء بقية العلاج على نفقته الخاصة.
ويقول محمود:“تكلفة الأدوية التي أشتريها تصل إلى نحو 4800 دينار شهريًا، وهو مبلغ مرتفع ولا أستطيع الاستمرار في تحمّله لفترة طويلة.”
ومع تراكم المصاريف، اضطر إلى اتخاذ قرارات مالية قاسية.
ويؤكد:“اضطررت إلى بيع قطعة الأرض الوحيدة التي ورثتها عن والدي، كما باعت زوجتي ما تبقّى لديها من مجوهرات بسيطة، حتى نتمكّن من تغطية جزء من تكاليف العلاج والسفر والفحوصات.”
ويضيف بصوت يحمل شعورًا واضحًا بالمسؤولية الأسرية:
“لا أستطيع التوقف عن العلاج؛ فأسرتي وأطفالي يعتمدون عليّ، وليس لهم معيل بعدي.
تحذير دولي: دواء مغشوش مخصص لسرطان الثدي.
لم تكن قصة محمود حالة فردية معزولة، إذ سبق أن أصدرت منظمة الصحة العالمية تحذيرًا بشأن تداول دفعات مغشوشة من دواء “إبرانس – Palbociclib”، المخصّص لعلاج سرطان الثدي، بعد اكتشاف عينات غير أصلية في عدد من الدول، من بينها ليبيا، ودعت إلى سحبها بشكل عاجل من الصيدليات والأسواق.
وأشارت المنظمة إلى أنّ تداول الأدوية غير المطابقة قد يؤدي إلى:
• غياب الفعالية العلاجية.
• زيادة خطر الانتكاس.
• وتعريض المرضى لمضاعفات صحية خطيرة.
وهو ما يعزز المخاوف المرتبطة بسلامة مسارات توريد الأدوية داخل البلاد
سوق مفتوحة… ورقابة محدودة.
يرى نقيب الصيادلة في ليبيا، الدكتور خليل الآغا، أن انتشار الأدوية المغشوشة أو ضعيفة الفعالية يرتبط بعدة عوامل تراكمية.
ويقول:“تزايد عدد الشركات المورّدة للأدوية، وسهولة إجراءات اعتمادها، وضعف الرقابة على المنافذ الحدودية، وتباطؤ تنفيذ مهام الجهات الرقابية — كلها عوامل ساهمت في دخول أدوية مغشوشة أو ضعيفة الفعالية إلى السوق الليبي.”
ويشير إلى أن القضية لا تقتصر على بعدها الصحي، بل ترتبط بالأمن القومي، مؤكدًا أن:
“أدوية الأورام على وجه الخصوص يجب أن تُورَّد عبر قنوات رسمية واضحة، ومن خلال شركات معتمدة وموثوقة.”
ملاحظات ميدانية داخل المعهد القومي للأورام بمصراتة.
داخل المعهد، ترصد الفرق الطبية تفاوتًا في استجابة بعض الحالات للعلاج.
تقول الدكتورة سدينة مفتاح بقسم الصيدلة بالمعهد القومي:
“في بعض الأحيان نلاحظ اختلافًا في لون الدواء أو قوامه أثناء التحضير، كما أنّ بعض المرضى لا تظهر لديهم الاستجابة العلاجية المتوقعة عند استخدام أدوية قادمة من شركات غير معروفة، خصوصًا من بعض الشركات التركية أو التونسية أو الهندية.”
وتشير مفتاح إلى أنّ هذه المؤشرات تُوثّق وتُحال — عند الاشتباه — إلى الجهات المختصة والرقابية.
كما تقول مشرفة قسم الباطنة رجال، نورية حسين، إن الفارق العلاجي يظهر بوضوح في متابعة الحالات.
وتضيف:“المرضى الذين يتمكنون من الحصول على أدوية من شركات عالمية معروفة — مثل بعض الشركات السويسرية أو الإنجليزية — يظهر لديهم تحسّن سريري أوضح واستقرار أكبر في المؤشرات الطبية، بينما الحالات التي تستخدم أدوية مقلّدة أو غير معروفة المصدر تتعرض غالبًا لانتكاسات متكررة.”
وتضيف:“نحرص على توعية المرضى — قدر الإمكان — بأهمية الحصول على أدوية من شركات موثوقة ومعتمدة، لما لذلك من تأثير مباشر على مسار العلاج.”

حالة أخرى … رحلة علاج عبر الحدود.
إلى جانب تجربة محمود، خاضت سهيلة عبدالقادر (54 عامًا) — وهي مريضة بسرطان الثدي — تجربة أخرى تعكس جانبًا مختلفًا من واقع العلاج داخل البلاد.
وتقول:“أصبت بالمرض للمرة الثانية، وكنت أشتري الدواء من خارج المنظومة الرسمية بسبب نقصه داخل المراكز العامة، لكنني لم أشعر بأي تحسّن، بل بدأت حالتي تتراجع رغم التزامي بالعلاج.”
ومع تدهور المؤشرات الطبية، قررت السفر إلى الأردن لمتابعة حالتها هناك.
وتروي:“أبلغني الأطباء في الأردن أن الخطة العلاجية التي كنت أتبعها داخل ليبيا غير مناسبة، وأن جزءًا من الأدوية التي استخدمتها لم يكن فعّالاً.”
خضعت سهيلة لبرنامج علاجي جديد استمر عدة أشهر، وتقول إنها استعادت استقرارها الصحي تدريجيًا بعد تعديل الخطة العلاجية.
وتضيف:“التجربة جعلتني أكثر حذرًا في مسألة الدواء، ولم أعد أثق في العلاج داخل ليبيا ما لم يكن عبر قنوات رسمية ومراقبة.”
واليوم تعيش حياتها بصورة طبيعية بعد استكمال العلاج.
بين فجوات الإمداد… ومصير المرضى.
ما بين شهادات المرضى، وملاحظات الفرق الطبية، تتشكل صورة أوسع لأزمة تتجاوز الحالات الفردية، وتشير إلى منظومة دوائية تعاني من:
• نقص في الإمدادات داخل المرافق العامة
• تعدد في قنوات الاستيراد غير المنظمة.
• تفاوت في جودة الأدوية المتداولة.
• وصعوبة تتبع مصادر التوريد بشكل دقيق.
وهي عوامل تُضعف الثقة في الدواء، وتحمّل المرضى كلفة المخاطرة الصحية والمالية في آن واحد، خاصة في الأمراض المزمنة والمعقدة مثل الأورام.
بالنسبة لمحمود الجابري ومرضى آخرين، لا يتعلق الأمر بالعلاج فقط، بل بقدرتهم على الوصول إلى دواء آمن وموثوق داخل منظومة صحية قادرة على حماية حياتهم.
ويقول في ختام حديثه:“ما أتمناه هو علاج يمكن الاعتماد عليه، حتى أستطيع مواصلة حياتي وعلاجي دون خوف أو خسائر إضافية.”














