بقلم :: حسن المغربي*
كان علي الاهتمام بنفسي قليلا، فما من شك، سأرسب هذا العام، لقد أهملت المحاضرات، وقراءة الدروس المهمة، كل ذلك من أجلها، ومن أجل الجلوس معها لساعات طويلة في الجامعة!
نصحني أصدقائي غير مرة على متابعة المناهج الدراسية، لكني كنت أقول لهم، لا تقلقوا، سأنجح مثلما هي العادة في كل سنة.
كنت أرى بأن المواظبة على القراءة وتتبع الدروس منذ بداية العام الدراسي، طريقة ثقيلة، مملة، ولا يمكن أن يُحصد من ورائها سوى الإرهاق الجسدي والذهني معا، أما المذاكرة قبل الامتحان بيوم واحد، كانت طريقتي المفضلة، فهي تعمق الأفكار وتزيد في رسوخها بالذاكرة، ولو بصفة مؤقتة، المهم هو استحضارها أثناء الامتحان، وبعد ذلك، فليكن مصيرها الاستبعاد أو الاستبدال أو الإلغاء الكلي مثلما يحدث في أجهزة الحاسوب الذكية، ورغم اقتناعي الأكيد بما تحوي هذه الطريقة من تدليس وتحايل، بل وتزوير في أحيان كثيرة، إلا أنني طالما ارتحت لها كثيرا، كنت أقول لنفسي: الانطلاق من اللاشيء مثل البحث عن أشياء فارغة، كلاهما لا يجدى نفعا في حياتنا العادية.
لكن في أحد الأيام، بينما كنت مستعدا لامتحان مادة الفلسفة اليونانية، خطر لي أن أبحث عنها، وأجلس معها، عسى أن تزيل ما علق في النفس من مشاق وكروب..
اتصلت بها على الهاتف الأرضي، أجابت بأنها ستأتي بعد ساعة، خرجتُ من البيت مبكرا نحو الجامعة، جلستُ في المكان الذي كنا نلتقي فيه بالعادة، انتظرتها طويلا، انتظرتها أكثر مما يحتمل، لكنها لم تأت!
صاح أحد الأصدقاء : هيا الامتحان بدأ! لجنة الإشراف ستمنعك حتما إذا ما تأخرت في دخول الامتحان.
ضحكت وقلت له: أساسا أنا لا أبالي بما تفعله الجامعة
لقد كان عدم حضورها يعد بالنسبة لي محنة كبيرة، محنة غير عادية، محنة أكثر أهمية من الامتحان والشهادة والجامعة نفسها، كنت أقول لها كل صباح، ولمدة ثلاث أعوام: العالم كله في كفه، وأنتِ وشعرك الأشقر الطويل الذي يشبه الذهب في كفة ثانية.
انتظرتها طويلا وأنا على ذلك الكرسي الحجري حتى نهاية الدوام، ثم قفلتُ راجعا إلى البيت، وطول الطريق أخمن فيما حدث! قلت : ماذا جرى لها ياترى؟ ما هو الأمر الخطير الذي حال دون مجيئها؟ هل سيارتها تعطلت أم مات فجأة أحد أفراد العائلة؟ لا بأس .. سأذهب إلى بيتها أرقب الأمر عن كثب..
ركبتُ سيارتي، وانطلقت كالسهم إلى بيتها، وما إن انعطفت السيارة نحو الشارع، حتى رأيت الزينة والزخارف على الأبواب والنوافذ، وصوت زغاريد النساء تلعلع بالأجواء، سألت أحد الجيران، ماذا يوجد في الشارع؟ أجاب قائلا:
اليوم فاتحة بنت الحاج سالم.
قلت له : الكبيرة؟
أجاب: اللي تقرأ في الجامعة
- ماعليش يا سيد ما تعرفش من اللي ناسبهم
-
والله يقولوا أستاذها في الجامعة
شعرتُ بالدم يغلي في عروقي،وشيء عميق يخترق أوصالي، أدرتُ مقود السيارة، وأنا أتذكر الكلمات الحميمة التي ما زلتُ أسمع صداها في أذني: علاقتنا ستظل طاهرة.. أنت كل شيء في حياتي.. سنكون أسعد اثنين على وجه الأرض.. ما بيننا لن ينتهي مهما حدث..
رجعت إلى البيت، ركنت السيارة تحت شجر السنديان الذي غرسه والدي ذات يوم خريفي، وعزيتُ نفسي قائلا : يبدو أن الانطلاق من اللاشيء، مثل البحث عن أشياء فارغة، كلاهما لا يجدى نفعا في حياتنا العادية.
*مدير تحرير مجلة رؤى