بقلم : إبراهيم عثمونة
قال لي “عبد الله النقراط” اجلس واتركهم فهم في السياسة القذرة هكذا يقفون وجهاً لوجه حدّ الصدام ثم يعودون ويجلسون بآخر لحظة . حدث هذا وشاهدته بأول زيارة لهم في مربوعة عبد الله حين أخذني صهري من ذراعي وقال لي اجلس ولا تخشَ عليهم ، لن يتعاركوا ، فعدتُ إلى مكاني . كان المصاريت يتوعدون الذين من بنغازي وكان الذين من بنغازي يتوعدون المصاريت وظل هذا يحصل دائماً طيلة العشرين يوماً ، لكنهم اليوم تبدلوا أو تبدل الأمر حين وصلهم خبر أن أحد المخطوفين قد مات . اتصل بي عبد الله فركبتُ سيارتي وجئتهم لأعزيهم حين وجدتهم صامتين ، وثلاثة منهم عند الباب ينوون الذهاب إلى سبها و”محمد النقراط” أخو عبد الله يستقبل مكالمة من القطرون ويؤكد له مخاطبه أن الثمانِ أشخاص قد وصلوه وهم بحالة جيدة لكن الذي اسمه “نجيب مفتاح خبز العقوري” ليس معهم ، وربما يكون بالفعل مات . كان بداخل المربوعة اثنان من مصراتة وشخص من أوجله وآخر خُمسي والثلاثة أشخاص الذين وجدتهم عند الباب هم من بنغازي . كل هؤلاء وآخرون هم أهالي المخطوفين التسعة الذين اختطفتهم عصابة تشادية بمنطقة “القاف” على الطريق العام وهم يتناولون فطور أول يوم بشهر رمضان . جمعتهم مشقة الطريق ، فالمصراتي كان يملأ سيارته إبلاً من الجنوب إلى مصراتة وشخص آخر معداني وقبايلي يملآن دلاعاً إلى بنغازي والعقوري وشخص من أوجلة يملآن خزاناتهم وقوداً إلى الجنوب ورجل من أوباري ومعه طفلة كانت سيارته صغيرة لكنهم أوقفوه ودعوه إلى الإفطار معهم . تعرفوا على بعضهم في صحراء القاف وفاجأتهم العصابة في صحرائهم وهي تشهر عليهم السلاح وتسوقهم كما تسوق الأسرى . عربد عليهم هذا العقوري منذ اللحظة الأولى ، وظل يصارعهم فربطوه إلى الخلف وانهالوا عليه ضرباً منذ الساعة الأولى – هكذا قال أحد رفاقه عبر الهاتف من القطرون قبل ساعة . لا أحد سمع صوت هذا الرجل سوى رفاقه وأفراد العصابة التي ضربته حتى الموت حين عبرت به الحدود التشادية ، ولا أحد سمع أنينه الأخير سوى خالته في بنغازي وربما أمه المتوفاة . قيل إن تلك الخالة شعرت بشيء يمخرها من الداخل فاتصلت بأخيه المتواجد عندنا في سمنو ، لكن سمنو حتى ذلك اليوم لا تعلم أن أحداً من المخطوفين مات . أخبر خالته أن أخاه نجيب بخير وأنهم بصدد التفاوض مع الخاطفين على القيمة المطلوبة لإطلاق سراحهم . لم تصدق الخالة ، ربما كانت تستعير قلب أختها المتوفاة ، كانت الأم الثانية لنجيب العقوري ، ومنذ ذلك اليوم وهي تتصل حتى فجر هذا اليوم حين أطلعوها على النبأ ! لا أحد سمع صوت نجيب وهم يعذبونه لأنه شتمهم ووصفهم بالعبيد – هكذا قال مَن معه – وحين سكت عن الكلام وعن الحركة جاءت به هذه العصابة وممدته إلى جانب رفاقه ، وبعد دقائق خمد تماماً ومات . تحسسوه ، تحسسوا صدره الذي سكت ، وقيل وقتها إن خالته في بنغازي هي الأخرى تحسست صدرها . لم يدفنوه داخل الحدود التشادية بل حملوه معهم من مكان إلى آخر ومن سيارة إلى أخرى حتى وصلوا به واحة “واو الناموس” وحفروا له هناك وصلّوا عليه ثم واروه الثرى . تعانقوا جميعهم هناك وبكوا دون أن يسمعهم أحد. بكوا في واو الناموس جميعاً ، أقاموا عليه العزاء على ناموس هذا الحرّ هناك في واو الناموس حيثُ لا سلطة لا للسراج ولا للصديق الكبير ولا أحمد امعيتيق ولا حتى لـ خليفة حفتر . اسألوا قادة المليشيات التي تقطن عروش طرابلس وقريباً من ميزاب البنك المركزي إن كانوا قد سمعوا مرة بأرض ليبية اسمها واو الناموس ؟! سوف يقولون لكم بيعوها ، سوف يخاطبوكم وهم يتحدثون على التلفون ويقولون لكم إذا وجدتم مَن يشتري واو الناموس بيعوه ، ولا حاجة لنا لا بالواو ولا بالناموس . لا بأس فهؤلاء لا يعرفون أن الناموس في اللهجة الليبية هو العزّ هو الأنفة والكبرياء ولا يعرفون أن قدر هذا العقوري الحر أن يُدفن في الواو وفي الناموس لأنه يُعبر عنا نحن ولا يُعبر عنهم هم. حضرتُ مرة قسماً من المفاوضات بين الخاطفين وأسر المختطفين في بيت النقراط عبر الهاتف . لم يتدخل الصديق الكبير ، لم يتصل بنا ، ربما لأنه لا يعرف أرقام هواتفنا ليدفع المبلغ أو حتى جزءًا منه قبل أن يموت العقوري ، ولا أرسل السراج والبرغثي كتيبة مسلحة ولا أظن خليفة حفتر مهموماً بهكذا مسائل . وكل ما حصل يومها أن هناك مَن كتب بخط يده إعلاناً ونشره على أبواب جوامعنا الخمسة في سمنو يدعو فيه الناس للتبرع والمساعدة وفك أسْر هؤلاء المأسورين . وضعوا صندوق للتبرع لكنهم حين فتحوه وجدوا به ذلك النوع من النقود المتآكلة التي جرت العادة أن تجمعها المصارف وتحيلها إلى المركزي ليعدمها . شعرنا بالخجل في سمنو ، وتوجسنا ، وبعضنا قال إن الخاطفين قد لا يقبلوا نقوداً قديمة ومهترئة ، وقد يرفضوا مشاركتنا المهترئة ، لكن ما حصل أنهم يقبلوا أي شيء حتى لو كانت (كواغط ) حين مرت نقودنا بسلام وأخذوها في غمر واحد ، وبعد يومين آخريْن ، وهم ما زالوا في الطريق مرروا خبراً عبر هاتف الثريا بأن عدد المخطوفين الذين بحوزتهم ثمانية أشخاص وليسوا تسعة . الكل بكى في مربوعة عبد الله النقراط دون أن يسأل أحد أحداً عن اسم هذا الميت . أجهش المصراتي على كتف الشرقاوي دون أن يتعرفوا على شخص الميت ، ووقفتُ أنا على مسافة منهم أنظر وأحرضهم على مزيد من البكاء.