قطوف

قطوف

  • المهدي الحمروني

المعلم، حين ينقب في جراب الذاكرة، أي قدرة جبارة للسرد في القبض على التفاصيل؟، وفرز الأحاسيس في الباطن الموغل على نيقاتيف البدء الغائر السحيق؟، ثم نثر ألوانه وتصعيد موسيقاه إلى لوحة مكتملة الدقة في كمال الجمال والشعور ..
من “الأيام الجنوبية” للمعلم يوسف الشريف

من هوامش الأيام الجنوبية

” هذا ديب ستاذ يوسف “
______________________

عندما ينام النهار في عباءة الليل تنام معه جميع المخلوقات وتموت في الصمت كل حركة حتى ليخيل إليك أن كل شيئ ولد ميتا،ولعل هذه صورة كل قرية في الجنوب الشاسع المساحة القليل السكان،والآن يبدأ صخب الصمت،وهذه الصفة لمن جرب وكان في مثل ليلتي ليس فيها أدنى مبالغة،يبدأ صخب الصمت بالسكون ثم ترقب ما بعد السكون ثم لا شيئ يأتي ثم تولد أسئلة غير مفهومة،ثم تشتاق لصوت أي صوت،كل ليلة أجد نفسي في هذا الصخب الجهنمي الأخرس،أجد نفسي تحت ضغط ثقل جبل من رصاص،وأنني وحدي في المدى الذي لا تحده نهاية،هذه الليلة تبدو وكأنها ليلة الليالي،كأن شيئا على وشك الانفجار،في بعض الليالي يبقى معي سنكيل يرافقه راديو الباتارية ساعة أو ساعتين يبحث خلالها عن إذاعة تجود علينا بأغنية أو موسيقى،سنكيل تعني في الفرنسية مئة كيلو لأنه استطاع رفع هذا الثقل،لا أحد يعرف اسمه الحقيقي،هو الوحيد الذي يملك راديو،كان قد تحصل عليه من الفرنسيين عندما كان عاملا معهم،لذلك تراه مزدحما بدعوات للسهر عند بيت من بيوت ونزريك والاستماع لما في الراديو من أخبار لا يفهم مغزاها إلا خمّني رئيس المخفر وهو من الطوارق رقيق العود لكن جسمه كأنما قد من فولا،الأن أراه فوق الخمسين وخبير بالحياة ولا يعرف الخوف أبدأ،وجدت فيه أبوة أشتاق اليها رغم الجدية التي لا تفارق ملامح وجهه،قبل أيام قليلة ذهبت إليه مسرعا متألما من لذعة عقرب وقبل أن أعرف ماذا سيفعل كان قد شق الجلد بخنجر صغير وسحب بشفتيه دما قانيا وربط الساق بقطعة قماش وأعطاني مشروبا طعمه لا يطاق،بعد قليل ذهب الألم،لكن هذه الليلة ليست كأي ليلة،الآن أفكر في باب المدرسة الرئيسي وهو من خشب،منذ جئت المدرسة وهو مشرع في الليل ومشرع في النهار،يصدر إذا هبت ريح أصواتا كأنها أصوات شياطين من خلال شقوق صنعتها درجات الحرارة العالية في الصيف،هذه الليلة الريح ميتة،في صخب الصمت يبدأ الخوف بالنمو،يخرج من قلبك كبذرة ثم فجأة يتحول إلى شجرة ثم إلى غابة يغيب عنها أي لون أخضر،هنا أجد نفسي أكلم نفسي لأقنعها بأن هناك آخر غيري،الزمن هنا يفقد قيمته وجدواه لأنه بلا نهاية،ليس عليك أن تتعجل،أتمنى عاصفة تدمر هذا الصمت،أتمنى طيف إنسان،لكن الذي حدث شيئ غريب ومخيف،فجأة نفذت إلى أنفي رائحة،رائحة نتنة،انتصبت واقفا خلف الباب وملتصقا به،ليس عندي ما أحمي به نفسي،نمت في صدري شجرة خوف عظيم،تتلاشى الرائحة وتبتعد ثم تقترب،هي لحيوان لا أعرفه،وبخبرتي في التنصت على أصوات محركات الشاحنات وهي على البعد البعيد استطعت أن أسمع خطوات الحيوان وهي تطأ الأرض،صوت محرك الشاحنة القادمة إلى ونزريك يمكن سماعه وهي في برقن على بعد 30 كيلومتر،ثقل خطوات الحيوان على الأرض توحي أنه من النوع المفترس،الصحراء الليبية في تلك السنين كانت موطنا للحيوانات المفترسة خاصة المتوسط منها كالذئاب والثعالب والضباع،الليلة حياتي مهددة بواحد منها،لم أغادر موقعي خلف باب داري الصغيرة،كنت أنتظر اختفاء الخطوات لكنها الآن صارت أقرب ثم أقرب، وضج الخوف في قلبي وانتظرت،انتظرت كأنني أنتظر زمنا لا ينتهي لكنه انتهى.
كان اليوم جمعة،استنجدت برئيس المخفر،هو خبير في اقتفاء الأثر،سمع مني ما جرى في ليلتي،بعد جولة أو جولتين دعاني لأرى أثر خطوات زائر الليل..قال ” هذا ديب ستاد يوسف “
______________________

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :