- فسانيا :: عمر الطاهر – غات
تادرارت ، اسم يطلق على المنطقة الممتدة خلف جبل أكاكوس شرق منطقة غات من مدينة العوينات ( سيردلس ) سابقا إلى ما بعد وادي آريكين جنوبا داخل حدود دولة الجزائر . يفصل خط الحدود الدولية ما بين ليبيا و الجزائر منطقة تادرارت إلى شطرين ما بين البلدين ، لتنتهي تادرارت الليبية جنوبا عند خط الحدود مع الجزائر في ممر ( تخرخوري ) . و تادرارت فضلا عن مدلول اسمها باللغة التارقية بمعنى ( منطقة جبلية ) هي مجموعة من المرتفعات الصخرية التي تكونت من جبال رملية تتخللها أودية عميقة كلما اتجهت إلى الداخل من سلسلة كثبان ( آيجيدي وان كازا ) نحو الغرب . إجمالا هي الجهة الخلفية لجبال أكاكوس من جهة الشرق تتميز بالرسومات و النقوش التي تنتشر على سطح صخورها وهي نوع من أنواع الفن الصخري الثلاث ( نقوش ، صور ، رسوم ) الذي ساد إبان عصور ما قبل الميلاد لتعبر عن حياة ساكنيها منذ آلآف السنين . تصور يومياتهم في التعامل مع الطبيعة بثلاثة أوجه على الخصوص (الديني ، الاقتصادي ، الثقافي ) و لكن بكل أسف كعادتنا ، نحن شعوب العالم الثالث دائما لا ندرك ما لدينا من كنوز ، حتى يأتينا الغرب في أشكال ثلاث أيضا ( رحلات استكشافية أو سياحة ترفيهية و علمية أو استعمار ) . مثلما حدث عندما اكتشف عالم الآثار الإيطالي( فابريزيو موري ) عام 1958 أثناء التنقيب في كهف صخري صغير يقع في وادي “تشوينت” في سلسلة جبال “أكاكوس” جنوب مدينة “غات” حيث تم العثور على قبر يحوي مومياء بموقع “وان مهوجاج” أو ما أطلق عليها تسمية المومياء السوداء .
و بما أنني من سكان مدينة غات و العاشق لصحرائها ، أعرف المكان جيدا و أتذكر حديث الحاج آمغار رحمة الله عليه و هو يسرد لي قصة استخراج المومياء وأن رئيس البعثة كان قد مكث هناك قرابة الثلاثة أشهر أو يزيد و أراني القبور الخمسة التي تم حفرها من قبل أفراد البعثة الإيطالية ، اثنان في الخلف و ثلاثة في الأمام تحت الصخرة الكبيرة و التي تحتوي أسفلها على رسومات و منها ما يثير الدهشة مثل صور القوارب وهي تسير في نُهيْر صغير عندها يتبادر إلى ذهنك أن تتساءل ، هل كانت هذه الصحراء الجدباء ذات يوم جنات وارفة الظلال تجري من تحتها الأنهار . حدثني الحاج آمغار رحمه الله كيف استخرج المسكشف موري تلك المومياء و كانتا اثنتين و الأولى أصابها العطب لأنهم لم يحسنوا التعامل معها و أما الثانية ، فتعامل معها الباحث الأستاذ موري و كأنها طفلة صغيرة على قيد الحياة ، حيث سار مسافة طويلة يحملها بين ذراعيه حتى سلمها إلى ممثلي مصلحة الآثار لينقلوها بدورهم إلى غات و منها إلى إيطاليا عبر طرابلس لإجراء الدراسات و البحوث عليها ، و كان لي حظ رؤيتها بمتحف السرايا بطرابلس مسجاة داخل صندوق زجاجي عرفت باسم المومياء السوداء .
تادرارت مهد حضارة لم تندثر ، ظلت طلاسمها محفورة على الحجر و صورها محفوظة برغم الزمن و نقوشها تتحدى المخربين من البشر ، الذين شوهوا بعضا منها بكتابة أسمائهم عليها تارة و بالكتابة فوقها بالطلاء تارة أخرى،. و حدث هذا نتيجة لثقة أهل تادرارت بزوارهم سابقا من ممتهني حرفة السياحة و لم تكن قلوب أهل تادرارت الطيبة تستوعب مقدار الشر في بعص نفوس أبناء بلدهم من ذئاب الصحراء . كان سكان تادرارت منذ قرون طويلة ، كانت فيها تلك الرسومات و النقوش و الصور ماثلة أمامه أعينهم ، و برغم عدم علمهم بأهمية تلك الكنوز التاريخية وما تحمل من قيم علمية و فنية و اقتصادية للبلد ، لمْ يَعْتَرِها سوء ، بل حافظوا عليها كإرث مقدس من الأسلاف . كان الحاج آمغار سليل أولئك الأوائل ، حافظ على تلك الأمانة و سلمها لبنيه من بعده ، كان شيخا وقورا ، له تسعة من الأبناء ، أورثهم تادرارت و قيمها الإنسانية و قيمتها التاريخية ، كانوا منتشرين في أوديتها ، يحرسونها ليلا و نهارا ، يحرسون كل شيء فيها ، حتى حيواناتها و نباتاتها و مصادر مياهها ، كانوا وحدهم يعرفون مجاهلها و يحفظون أسرارها .
منحتهم السلطات فيما سبق بعضا من الامتيازات ، فلقد أدخلت بعضا من أبنائهم سلك العسكر و لم تزج بهم للعمل بمصلحة الآثار ، و أرسل البعض منهم أبنائهم إلى الحواضر المجاورة ليتعلموا في مدارسها . و قلة قليلة لا تكاد تتجاوز أصابع اليد الواحدة ممن أتموا تعليمهم و لا أذكر أني أعرف منهم أحدا. كان الحاج آمغار بمثابة مدير محمية التراث بالفطرة ، و كان إخوته وأبناؤه و أبناء عمومته الذين ينتشرون في أوديتها العديدة المعدودة يشاركونه مسؤولية حماية الآثار و بقايا الحيوانات التي شارفت على الانقراض بسبب الصيد الجائر الذي فاق كل تصور في وحشيته في إبادة الوعول النادرة و الغزلان . إن واقع محمية تادرارت اليوم يحكي واقع ليبيا من حيث انتهاك كل القوانين التي تُعنَى بالمحافظة على التراث الإنساني و كذلك خصوصية السكان المحليين و البيئة الطبيعية وحيواناتها التي شارفت على الانقراض . فتحية من كل قارئ لهذا المقال ، إلى أولئك الرجال الشرفاء من سكان تادرارت من الجدود الأوائل للحاج آمغار و إخوته و أبنائه و أبناء عمومته و الجيل الذي يليهم الذين صارعوا من أجل بقاء هذا الإرث العظيم و الكنز الثمين لنراه بأعيننا و نشارك جميعا للحفاظ عليه .