د / نور الدين محمود سعيد
رداً على مقالة السيد يونس الفنادي، بحق الشاعر محمد الدنقلي، وهي بلا شك مقالة جيدة لولا أننا من حقنا أن نشاركه قليلاً، أفضل من أن يتحمل عبئ رسالة نقدية ثقيلة على كاهله حين يكون في الميدان وحده، والذي لم نجد فيه مجالاً للرد على مقالته في صفحة فسانيا، والتي قام فيها بسلخ المشهد النقدي الأكاديمي برمته بوعي منه عن مسؤولية كلامه او بدون وعي:
النقد ليس حكراً على الأكاديميين المخضرمين كما قلتم، سيد يونس، النقد نص مقابل نص، ، إما أن يوازيه في الجودة وإما أن يتفوق عليه، لا توجد منطقة وسطى إطلاقاً، ومن هذا الأساس الذي قد يكون قاعدة، لكنني أراه ركيزة حسية، يفقهها من تخصص فيها، من هنا يكون ما وراء النص، أكثر صعوبة من إنتاج النص ذاته، ومن هنا كذلك نستطيع أن نرصد أننا نكتب نصاً نقدياً، أو حتى نصاً شعرياً، سأعطيك مثالاً، في قصيدة جميلة لم تنوه لها، في الوقت الذي كنت تتحدث فيه عن الديوان الجديد:
الدنقلي حين قال: “كلهم ايحبوك موت، لكن أنا نحبك حياة”، حقيقة أنه أخفق في الإستعارة التي أربكت مزاجه هو على وجه الدقة في أن يشيع حالة الحب في العموم، ويجعلهم يموتون، ثم أنه يؤكد أنهم يموتون حباً، وهو يحيى، فلوا تشابك مع بيت المتنبي الصافع للحس لأدرك كنه المقاصد: (فعذلت أهل العشق حتى ذقته، فعجبت كيف يموت من لا يعشق)..
أنا أدرك مقاصد الشاعر، لكن المعنى خائن في أغلب الأحيان، وليس كما نريد له أن يكون، أو أنه كما يريد هو، أن يتحول هو إلى حياة، بأن يجعل الحياة حكراً عليه، ومن حقه، هو شاعر حين يكتب. حقيقة لا أحبذ أن يأتي النص حالة من التفسير، أو الوصف، ليكون ماوراء النص ليس أكثر من مرآة له، نحن كنقاد، مهمتنا ان نعين الشعراء حين تضطرب حواسهم المزدحمة، على النقد ان يصنع قبس حين ترتبك الأبيات في سريانها في العتمة، لكن كان الدنقلي أكثر حرصاً نوعاً ما، حين أتى بالبيت الثاني: “كلهم عشقوا بصوت لكن أنا نصلي صلاة”، وعلى العموم غالباً ما يضع الرومانتيكيون أنفسهم في بوتقة التفرد، ليلتفون على المعنى، دون أن يكونوا على علم، أنهم وضعوا رؤوسهم في أنشوطة المغزى_ التي نجا من سطوتها شعراء شعبيبن آخرين، كنوا في قمة الروعة والذائقة الفنية، دون أن تحذلقهم الأساليب الأكاديمية؛ لعل الشاعر الشعبي رحومة بن مصطفى أعظمهم وأكثرهم خبرة، ولعل الميلوسي أكثرهم حذقاً ومعرفة بما يريد، حين قال: (شواهين كانوا سادة شواهين كانت نارهم وقادة، نهار حومهم ما من لمد لبّادة، هوير تلهم خيط الخزام جبرهم) وإن يكن كلامه يحتاج إلى تفسير بالنسبة للبعض، لكنني لن أقوم بذلك، ومن يريد، فإن الرحلة إلى الشاعر الميلوسي في بيته في زقزاو، لن تكلف شيء_ هذا إذا ما أردنا للعلامات أن تتدخل في النصوص المفتوحة على التأويل، ولقد كانت التجربة خانقة حتى عند الشابي نفسه، في بعض ما قال، فما بالك بالمحدثين في الشعر المحكي، لولا أن الشابي تجاوز محنته بقصائد أخرى، لست هنا في باب المقارنة أبداً، بقدر ما أنني في باب الأمثلة، الدنقلي شاعر جيد مافي ذلك شك، لكنه مهما تطاول بنصه، سيخترقه النقد، الذي لن يكون دارجاً أو جارحاً، بالقدر الذي سيعتلي هذا النقد بشعر الدنقلي إلى ماوراء الحس، في نص نقدي منتظر، يتكاثف معه بلا زعزعة ولا أية جلبة.
حين نعيد النص كتابة بغرض التأويل، نحن ننثر بذراً، وننثر بذوراً أخرى من عندنا سياجاً، لابد أن تكون من القوة بحيث تتشاكل معه جمالياً، لتحميه من الهلاك من جهة، وتشاركه في سيمفونية الريح التي ستخترقه بعد قليل في خريف عابر من جهة أخرى، لكننا حين نقول وننوه في مقدماتنا للتعريف بالشاعر، على أن فلان ولد بيولوجياً في.. (كما اوردتم في نصكم بصدد الدنقلي)، كيف ولد بيولوجياً، وهل يولد الإنسان خارج البيولوجيا؟ يعني هل هو جني؟ أو أن نقول أنه يضع سؤالاً فكرياً؟؟ كيف سؤال فكري؟ يعني أيديولوجي مثلاً؟ أو أن ننوه إلى أن شعر الدنقلي تعبيري، دون أي تمحيص أن مدرسة الدنقلي محض رومانسية، فنحن نخفق في الحساب مرة أخرى، ثم حين نأتي بنص كامل ونلحقه بكلمات من مثل أن الشاعر يحتاج إلى حنان، أو إلخ من كلمات بلا أية شيفرة، فنحن نتجاذب مع نص لم نفهمه “ربما” بما يكفي.
لنلاحظ هنا مثالاً بديعاً آخراً، من مكان يشترك معنا في صناعة الأثر، في نص شعري للشاعر الفخم، طلال حيدر، على ذات الشاكلة تقريباً، (بغيبتك نزل الشتي، قومي اطلعي عالبال، في فوق سجادة صلاة، و اللي عم بيصلوا قلال).
لن أفكك الكلمات السابقة لسبب أننا لسنا بصدد الحديث عنها، أتينا بها كشبيهات جميلة جداً.
الدنقلي صديق شخصي، وكنت نوهت أنني سأكتب عنه، لولا بعض السأم، له كل المحبة والود، وأتمنى لكم جميعاً التوفيق. جميل ما سردتم.
أظن أنه من الملح فعلاً، أن نكتب بصدد إنسان شاعر ذوب الكلمات قبل أن يذوب حبرها، حين قال:
((فيدي ورق … فيدي هوا، فيدي هوا مافيش فيدي شي… وبالله إيش جدوى الشعر، لا برفقته يطول العمر، ولا صاحبه يولي نبي!… فيدي هوا ما فيش فيدي شي)).
ن.م.س