- فسانيا :: عبد المنعم الجهيمي
الناس طبعها صعب..الناس والله بهدلونا، كان يتحدث بحرقة وهو يخبرنا عن يوميات عمله كسائق شاحنة قمامة في سبها. عبدالسلام حدردر(35عاما)، يعمل سائقا في شركة النظافة بمدينته منذ العام 2007، وهو عمل لايملك غيره مصدرا لدخله وأسرته التي كونها حديثا.
وسط مدينة سبها يوجد مقر إدارة الحركة والنقل بشركة النظافة العامة، وهو مسؤول عن تسيير أسطول من الشاحنات التي تقوم على تنظيف المدينة طوال اليوم رغم الظروف الصعبة التي تعيشها سبها منذ سنوات، فالاعتداءات من قبل عصابات السطو المسلح تتكرر على الدوم، وتطال دوما سائقي شاحنات النظافة.
يأتي عبدالسلام حدردر كل يوم إلى هذا المقر في سيارته البسيطة، التقيناه اليوم وهو يستعد للخروج في شاحنته، عبدالسلام لايتحدث كثيرا، غير أنه ينصت لمحدثيه باهتمام، نلحظ ذلك في عينيه اللتين تتابعان كل مايحدث في المكان، فعمله وماتعرض له خلال هذه السنوات جعلته أكثر حرصا وملاحظة وتدقيقا.
تعوّد عبدالسلام كل تفاصيل عمله، فيتحرك بشكل شبه آلي في المقر، ما إن يركن سيارته يجد نفسه متجها لمكتب الإدارة ويأخذ خط سيره لليوم، ومنه إلى الشاحنة التي صارت رفيقته عبر السنين، يصعد الشاحنة ويشغل الفنيون بطاريتها لينطلق خارج المقر، يرافقه في هذه الرحلة خمسة وأحيانا ستة عمال من المهاجرين الأفارقة، الذين يُشكلون الجيش البرتقالي كما تعارف عليه أهل المدينة.
تتقسم ورديات العمل عند سائقي شاحنات النظافة إلى ثلاثة ورديات، الصباحية من الثامنة حتى الواحدة، والمسائية من الواحدة إلى السادسة، والليلية من السابعة حتى الثانية عشرة، يعمل عبدالسلام دوما في الفترة المسائية التي حفظ خطوط سيرها وتأقلم مع مخاطرها.
يقول عبدالسلام إنهم وضعوا خطة في شارع النقالات وأجزاء من حي المنشية والجديد، بدأ في الحركة داخل المدينة، ولم ننتظر كثيرا حتى تقع معه أولى مشاكله، فالازدحام الشديد يعرقل مرور شاحنة القمامة، يقول إن الكثير من المارة نَزِقي الطبع، ولا يهتمون إلا بمرور عرباتهم، ولايريد أحدهم الصبر حتى تمر عربة القمامة أو يفرغ عمالها من تنظيف الشارع، يشير إلى أحد السيارات وقد خرج صاحبها يصيح عليه ويطلب منه الابتعاد.
ابتعدنا بسرعة بعد أن أكمل العمال جمع أكياس القمامة على عجل، فعبدالسلام لايأمن أن يكون أحد المارة مسلحا أو يقدم على إيذائه، لذا لايتفاعل كثيرا في الرد عليهم أو مناقشتهم، بعد أن شققنا عدة شوارع وصلنا إلى منتصف شارع النقالات كما يعرف في سبها، وهناك عطبت مضخة تشغيل صندوق القمامة، ولم يستطع عبدالسلام تشغيلها، بشكل سريع أخرج موبايلا صغيرا كان موضوعا في صندوق بجانبه، واتصل بفريق الصيانة، ولم نلبث كثيرا حتى وصل أحد الفنيين، الذي فحص المضخة وأخبر عبدالسلام بأن عليه العودة للمقر وتغيير الشاحنة، لتعذر تشغيلها. يقول عبدالسلام إنه تعود وقوع مثل هذه المشاكل، غير أن حظه اليوم كان جيدا، فأحيانا تتوقف به الشاحنة في طريق بعيدة ومقطوعة، أو تتوقف به في أوقات لاتتوفر فيها فرق الصيانة، وعند توقفها تنفتح أمامه عديد السيناريوهات التي لايحبذها من هو في مثل عمله.
وجدنا أنفسنا وقد عدنا للمقر من أجل تغيير الشاحنة، هناك علمنا أن شاحنات القمامة تخرج جميعها بدون بطاريات، حيث يقع تشغيلها داخل المقر ببطارية واحدة. مدير الشؤون المالية والإدارية بشركة النظافة سبها خالد أبوصلاح قال لفسانيا، إن الشركة عانت من سرقة بطاريات شاحناتها، فبعد أن أدرك اللصوص استحالة سرقة الشاحنات والاحتفاظ بها أو التصرف فيها، اتجهوا لإيقافها والسطو على بطارياتها، وهو مادفعنا لإخراجها بدون بطاريات. هذا الواقع يؤرق عبدالسلام حدردر الذي تعرض لحالتي سطو مسلح قبل ذلك، في الأولى أنزلته المجموعة المسلحة بقوة السلاح ووجد نفسه تائها بين مزارع المدينة لايملك حتى أن يتصل بزملائه، وفي الثانية تعرض لذات الموقف وجرد من كل شيء معه، وبرغم ذلك يصر عبدالسلام على العمل في تنظيف مدينته.
ضحك حين سألناه عن سبب إصراره على العمل رغم كل تلك المخاطر التي يتعرض لها، نظر إلى مقود شاحنته قائلا: لا أملك غير هذا العمل ولا أجيد شيئا آخر، رغم أن الراتب ضعيف ولا يفي بكل متطلبات أسرتي، فضلا عن أزمة السيولة، كل هذه لاتشجعني على العمل في غير هذا المكان، أيضا أعتقد أنني صادقت كل من معي هنا من موظفين وعمال وسائقين وأشعر بأنهم عائلتي.
يضيف عبدالسلام بعد سنوات من العمل صرت أهتم لمنظر المدينة، وكلما شاهدت كومة قمامة أتساءل عن زميلي الذي يفترض أنه سيمر من هذا الشارع لينظفها، أتساءل قلقا وخوفا من أن يكون قد تعرض لمكروه، لا أشعر بالخجل من عملي، فكل أسرتي وجيراني وأقاربي ومن يعرفني عن قرب يحترمون هذا العمل، وهو مايخفف عني نزق طباع البعض من أهل المدينة.
يواصل حديثه وهو يشق إحدى طرق حي المنشية، أمام الجامع العتيق يركن شاحنته ليبدأ عماله في جمع القمامة، يقول إن عماله يأخذون وقتا في جمعها بسبب أنهم يفرزون القمامة، فيأخذون منها البلاستيك وما يمكن بيعه في مصانع إعادة التدوير، وهم بذلك يوفرون مصروفا يوميا لهم، فهم في العادة لايتقاضون مرتباتهم بشكل منتظم على الدوام. لايعتقد عبدالسلام أن مشكلة المخاطر التي تكتنف عمله ستنتهي قريبا، فلاتزال رحلته للمكب الرئيسي خارج المدينة محفوفة بكل ماهو خطر عليه وعلى عماله، ولاتزال السلطات المحلية في المدينة غير قادرة على تأمينه وزملائه، وهو مافشلت فيه كل الإدارات التي تعاقبت على المدينة منذ تسع سنوات. من أمام نادي الشرارة وسط المدينة نزل فريق فسانيا من شاحنة عبدالسلام، وودعنا باسما وكأنه كان سعيدا بأن أحدا اهتم بسماعه والإنصات لحكاياته في مدينة لايزال ساعيا للمحافظة على نظافتها، مضى في طريقه للمكب الرئيسي بالمدينة، وتركنا ونحن نتساءل عن المصير الذي ينتظره في أية لحظة، وهو الذي لايوجد حتى على هوامش اهتمامات المسؤولين ودعاياتهم.