د :: سالم الهمالي
دخل التليفون بيتنا في منتصف سبعينيات القرن الماضي، حينها كان احد اصدقائي يعمل في غرفة صغيرة تسمى (بدّالة)، يجلس على كرسي امام منظومة الهواتف التي تبدو كصندوق كبير يحوي عدد كبير مِن الاسلاك في نهاية كل واحد منها مسمار نحاسي، يغرسه في لوحة المفاتيح المرقمة امامه بعدد بيوت القرية. في البداية كانت تغطية التلفون في اوقات الدوام النهارية، ثم تطور الامر ليصبح طوال ساعات اليوم عبر مناوبات متوالية.الزائر الجديد أحتل مكانه في صدارة البيت (المربوعة)، واصبح يصدح وكأنه أخذ مكانة الديك في بيتنا القديم، يُشَريِّن بنغمة واحدة معروفة للجميع … شرين شرين شرين … حتى يلتقط احدنا سماعة التليفون او يقرر عامل البدالة ان ينزع السلك من غرزته!الاختراع الجديد بالنسبة لنا قرَّب المسافات وأضاف بعدا جديدا لمنوال حياتنا، فأصبحنا نتواصل عن بعد. ومما تميز به أيضا ان كل الأذان تهفو لسماع رنينه ودائما يجد يدًا تلتقطه، فلا احد يطيق نداءاته المتكررة بدون استجابه.حينها، يمكن القول ان اسرار القرية كلها محفوظة عند عاملي البدالة، ليس لأنهم يتنصتون على المكالمات فقط بل لمعرفتهم بما يحدث داخل البيوت … فكثيرا ما يختصرون الرد: بيت فلان فاضي ما فيه حد، كلهم مشوا السواني، رأيتهم راكبين مع بوهم في البيجو بخويطهم!!لم تمضي بضع سنوات حتى تطور الامر الى بدالة (لا سلكية)، مع احتفاظ كل بيت بتليفون واحد .. فقط لا غير .. اذا رن عرف كل أهل البيت من الطالب والمطلوب. بقت مع ذلك حرمة البيوت، اي هاتف بعد العاشرة ليلا يندر بأمر جلل، وبعد الثانية عشر يمكن ان تجزم انه اقرب الى المحرمات، عدا عما يقوم به “العشاق” خلسة من حيل وطرائق يعجز عن إدراكها باقي أهل البيت؛ الطالب يتحدث همسا والمطلوب يكاد ينام واذنه على جهاز التليفون ترصدا لاول (رَ) في رررررررناته، حتى لا ينتبه للأمر أحدا غيره!!تلك المكانة المبجلة للتلفون الارضي تهاوت اليوم إلى الحضيض، يصدح ويصدح، يرن ويرن ويشبع رنينا ولا يلتفت اليه احد … حتى الجدة لا تعيره اهتماما، تليفونها فيّ يدها والباقي … خاطيني الكل يعتبر التليفون مزعج، بعد ان كان النفس الذي يدخل ويخرج في البيت.تبدل نمط الحياة وتغيرت الاحوال، فكل افراد العائلة عندهم تليفونات نقالة (محمولة)، لا يشاركهم فيها احد .. ليس ذلك فحسب، بل هناك تغيرات اخرى لم تكن في الماضي بالحسبان!اليوم، ليس بالمسموح لك ان لا تجيب على الهاتف، سواًء كنت صحوًا ام فيّ سباتا عميق، ولا يمكن ان تجد وقت مقطوع حتى في (بيت الراحة) .. فالسؤال المعهود يؤرق الجميع: وينك ما ترد على الهاتف؟!العجيب ان رنات التليفون تعددت، فلم يعد رنين فقط، من آهات نانسي عجرم الى أذان وابتهالات وكل ما يخطر ولا يخطر على بال … بل تعدى الامر كل ذلك الى الهزات وحتى بالصامت .. فكم مرة اخرج من يجلس بجانبك تليفونه من جيبه، يجيب مكالمة لم تسمع لها حس؟!كل ما ذكرت يمثل قطرة في بحر، امام التطور والتغير الرهيب الذي نشهده في الحياة، فالتلفون لم يعد فقط وسيلة اتصال، بل ساعة، منبه، آلة حاسبة، طباعة، كاميرا، مكتبة، سينما، مسجل، حساب مصرفي، صندوق بريد، جهاز لقياس ضغط الدم والنبض، …. وما لا تعلمون!يمكن القول ان التليفون هو العنوان الكبير لسنّة التغيير في الحياة، ومن لا يدرك ذلك سيظل جامدًا في مكانه!